نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الأمن – نظريات الإدارة الأمنية الإستراتيجية
(1) النظرية النسبية الأمنية
يحدث أحياناً في محطة للقطارات أن يصادف وقوف قطارين في نفس المحطة ولكن باتجاهين متعاكسين، وإذا كنا نستقل أحدهما وبدأ الآخر بالسير سنظن للوهلة الأولى أن القطار الذي نستقله نحن هو الذي بدأ بالسير، وسرعان ما نكتشف أننا مخطئون بعد مرور آخر عربة من عربات القطار الآخر بجانبنا، وبنفس الطريقة يمكن أن يحدث العكس في حال بدأ القطار الذي نستقله فعلاً بالسير بحيث أننا سنظن أن القطار المعاكس هو الذي يتحرك، والغريب أنه في الحالتين سيحدث نفس الأمر لركاب القطار الآخر، وهذا ما اصطلح على تسميته “النسبية” في رؤية الأمور بحيث تُنسب الرؤية لكل شخص من منظوره ومقاييسه الخاصة أو طبيعة المكان الذي يقف فيه.
وبعيداً عن ما أسست له هذه النظرية في مجال العلوم الطبيعية من سلسلة اكتشافات تصل إلى حد العجائب، فإنه يمكن استخدام هذا المدخل الهادف للتبسيط كوسيلة لحل العديد من المشكلات المتعلقة بمسألة الإدارة الأمنية وعلاقتها المباشرة بالشق الإنساني الاجتماعي، بحيث نستطيع استنباط ما يمكن أن نطلق عليه “النظرية النسبية الأمنية” من خلال ربط مفهوم الأمن بالمجتمع الذي يتم العمل على إيجاد حالة الأمن المنشودة فيه، بخاصة عند وجود تمايز بين الأفراد وما ينتج عنه من اختلاف في رؤيتهم لحالة الأمن تلك من منظور كل منهم وبما يتناسب مع احتياجاتهم وتطلعاتهم.
ففي الوقت الذي قد يتطلع فيه المجتمع الذي يتسم معظم أفراده بالتحرر والانفتاح إلى “حالة” من الأمن تتناسب مع تلك السمات بحيث تضمن كل من حرياتهم الشخصية وتوفر لهم الحماية والأمن في نفس الوقت، إلاّ أن هذا الأمر سيبدو معكوساً في المجتمعات المحافظة وبدرجات متفاوتة قد تصل إلى أقصى معايير التعصب والمتمثلة في تفضيل حالة الأمن التي “تفرض” قيوداً أكثر من المألوف في مسألة التحرر مثلاً، من منطلق الحفاظ على العادات والتقاليد وحفظ الأبناء من الانجراف في طريق التحرر المبالغ فيه وغير المرغوب به من قبلهم.
والصراعات التي تحدث في كثير من المجتمعات قد تكون منابعها العميقة، وفي كثير من المواضع، ناتجة عن اختلافات الفكر والرؤى التي تتسبب في نشوء “النسبية الأمنية” وفقاً لتعدد واختلاف فئات المجتمع ودرجات التحرر التي تتبناها وتعتقد بها كل فئة، الأمر الذي يؤدي إلى حالة قد تصل إلى حد التضاد بين فئتين في أقصى جهتي سلم التحرر والتي قد تدفع الأولى نحو التشدد والتعصب، أو حتى تأييدهما، كوسيلة للحصول على الأمن المنشود بحسب رؤيتها وقد تدفع الثانية بالاتجاه المعاكس نحو أي شيء آخر كوسيلة للحصول على الأمن أيضاً!
وحتى يُكتب النجاح لأي إدارة أمنية في مثل هذه المجتمعات فإنه ينبغي لها أن تتمتع بالقدر الكافي، والضروري، من الوسطية والحكمة والمرونة، وبما يتناسب مع كل من مقدار التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي فيها من جهة واختلافات درجات تحرر أفرادها من جهة أخرى، بحيث تستطيع أن توجد حالة “الأمن” التي يتطلع لها الجميع بلا استثناء وبما يتناسب مع منظور كل منهم، مهما اختلفت سماتهم، وتتجنب كل من “الإفراط في التحرر” الذي يُثير المحافظين و”المبالغة في التشدد” الذي يُقلق المتحررين كلما أمكن ذلك.
إن تأسيس حالة الأمن المتوازنة المحايدة وفق النظرية النسبية الأمنية في أي مجتمع وبالطريقة التي تقترب أكثر لما يمكن أن نطلق عليه “الوسط الحسابي” للسمات الأساسية لأفراده، بخاصة المجتمعات المتنوعة ثقافياً وفكرياً، سوف يساهم بشكل لا يقبل الشك في إيجاد حالة السلم والأمن الاجتماعي الشامل فيها، بل أنه سوف يتخطى هذا الأمر ليكون وسيلة لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل بين كل الفئات والشرائح وبينها وبين المؤسسة الأمنية مما يساهم في تحقيق حالة الأمن العام المنشودة بشكلها الأمثل والذي يضمن حرية وأمن الجميع بدون مبالغة أو تقصير تجاه قيم وثقافة المجتمع السائدة إحصائياً.
يبقى أن نؤكد على أن إيجاد حالة الأمن المتوازنة والإستراتيجية المستدامة يتطلب الكثير من المرونة والحكمة والتوازن والنزعة الوسطية اللازم توفرها ليس فقط في القوانين والتشريعات واللوائح والإجراءات الأمنية بل، وبشكل أكثر أهمية، في سمات وفلسفة الفكر الأمني للقادة الأمنيين أنفسهم والعاملين في المجال الأمني بشكل عام بحيث تساهم تلك السمات، إضافة لمبادئ وأخلاقيات العمل الأمني، في منحهم القدرة على الرؤية الصحيحة لاحتياجات الإدارة الأمنية الشاملة التي تهدف، وتعمل على، تحقيق الأمن بالشكل الأمثل لكل فئات وشرائح المجتمع وتؤسس لاستدامته بشكل استراتيجي بعيد المدى وفي كل الظروف.