الثقافة الديناميكية العشوائية الحديثة
في قفزة رشيقة لم يسبق لها مثيل منذ العصر الجاهلي، تتحرك منابع ثقافة المجتمعات الآن من زمن الكتب والمقالات المنظمة، أدبياً أو علمياً، إلى زمن الفقرات والتعبيرات أو حتى الجُمل العابرة التي قد تُكتب أو تُقال هنا أو هناك، ويجري ذلك ضمن سياق تفاعلي ديناميكي يتمدد باستمرار وينتشر كالنار في الهشيم، كما أنه يتمتع بمغناطيسية جذّابة بشكل يختلف عن المغناطيسية الفيزيائية التي نعرفها والتي لا تجذب إلا الحديد، فهي هنا تجذب كل شيء وبلا استثناء وبكل الأشكال لينصهر في بوتقة واحدة ويخرج ما ليس له لون ولا طعم ولا حتى رائحة، بحيث يؤدي كل ذلك إلى إنتاج نوعاً من الثقافة التي يمكن أن نطلق عليها “الثقافة الديناميكية العشوائية” سواء بالشكل العام أو حتى في الجوهر الذي قد يبحث عنه البعض، حتى أنه بإمكانك، إذا كان باستطاعتك، ملاحظة ما تحتويه تلك الثقافة من جزئيات مثيرة قد تصل إلى حد التناقضات أحياناً، وكأن الناتج العام لها والمحصلة النهائية لمجموعها الكلي هو الصفر الثقافي، إن لم يكن سالباً بطبيعة الحال!
والتزاوج الحاصل الآن بين مكونات الثقافة بكافة أشكالها ومنظومة العولمة والحداثة بكل عناصرها وركائزها ووسائطها الاستهلاكية هو أشبه ما يكون بعملية “إذابة” للثقافة الحقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بحيث يتم تفكيكها وتجزئتها وإذابتها شيئاً فشيئاً في تلك المنظومة والناتج يكون مشروباً خفيفاً لا طعم له ولا لون ويؤدي الغرض السطحي من الارتواء الوهمي اللحظي المؤقت لكل من يشربه ولكنه سرعان ما يعود للعطش من جديد وبشكل فوري تماماً مثلما يحدث عند شرب ماء البحر المالح، وهذا التشبيه المبسط لا يعدو أن يكون نظرة مبسطة وثاقبة لما آلت إليه الأمور في عصرنا الحالي في الشأن الثقافي تحديداً.
والغريب في الأمر أن الأدوات التي أنتجها الغرب في عصر العولمة لأهداف محددة كمواقع التواصل الاجتماعي أو الأكاديمي المهني أو الثقافي قاموا بتوظيفها بالشكل والمعنى المناسب لكل منها، فمنها ما كان يهدف مثلاً إلى خلق بيئة تواصل اجتماعية يفتقدونها على أرض الواقع، نظراً لطبيعة حياتهم الأسرية والاجتماعية التي تميل إلى التفكك مقارنة بالمجتمعات العربية، ومنها ما استخدم كوسيلة للمناقشات الهادفة وتبادل وتطوير الأفكار، إلاّ أننا أكثر ما استخدمنا تلك الأدوات في غير محلها في الوطن العربي بحيث أضحت بيئة للتفكيك الاجتماعي بدلاً من التواصل، وأداة مثلى عصرية للتفتيت الثقافي في كثير من المواضع ووسيلة تعبير سهلة وسريعة تحمل بين جنباتها الكثير من المنطق المنقوص والمجزأ بشكل يخلق ويؤسس للكثير من التناقضات والصراعات وخلط للورق الأخضر باليابس بشكل يؤثر سلباً على مجمل إنتاجنا الأدبي والثقافي بكافة أشكاله.
وبالرغم من كل ما قيل وكُتب عن ما يسمى “هجرة الكتاب” كأحد مكونات وركائز الثقافة بكافة أشكالها على مر العصور، وشُح القراءة وحتى انتشار الأميّة بمعناها الفعلي والحقيقي، إلاَ أن كل تلك الإشكاليات لم ترقَ لأن تكون مسبباً لما يمكن أن يتسبب به الوضع الثقافي الحالي في المستقبل المنظور من حيث النتائج، والتي باعتقادي سيكون أهم ما يميّزها هو اللاّمنطقية والعشوائية والركاكة والحشو المغلوط وتحتوي الكثير من التناقضات العجيبة بشكل ديناميكي متقلب واختلاط الحابل بالنابل بالمعنى الجوهري ولكن هذه المرة ستكون النتيجة أننا نصل إلى درجة تغيب فيها القدرة على تمييز أي منهما، وسأدع للقارئ هنا فرصة ليتخيل كيف سيكون الوضع عندما نصل إلى مرحلة أننا لا نجد من يستطيع حتى تمييز الحابل من النابل.. عندئذٍ لن نكون بحاجة لقول ذلك المثل الشعبي وبطبيعة الحال لن نشعر بوجود المشكلة أصلاً وسيكون كل شيء على ما يُرام!!