الھندسة الاقتصادیة العالمیة .. الحدیثة !!
يتجه العالم اليوم نحو ما يسمى بـ ”الاقتصاد المعرفي” المبني على أسس علمية ومعرفية بشكل عام، وقد انتشرت بشكل كبير ثقافة التعاون والترابط والتكامل أو حتى الاحتضان والاحتواء بين الشركات العالمية متعددة الجنسيات بطريقة تؤسس لما يمكن أن يطلق عليه ”الاقتصاد الشبكي” الذي تتشابك فيه عدة أطراف بنفس المستوى مع تغييب الاعتمادية الهرمية، الأمر الذي يهدف، باعتقادي، لتوسيع رقعة المعرفة أولاً والمتوفرة لدى كل طرف من الأطراف حتى يتم الإلمام بكافة الجوانب المعرفية وتوحيد الجهود وتكاملها تمهيداً لاستثمارها بشكل أكبر وأفضل ومن ثم تحقيق النمو المُخطط له وتعميم الفائدة لجميع الأطراف المتحالفة حتى وإن كانت تخصصاتها مختلفة، الأمر الذي لم يكن ليحدث بدون تحالف من هذا النوع وبالتخطيط المناسب له.
وفي الوقت الذي يسير الاقتصاد العالمي نحو تلك التوجهات الحديثة ويتقدم بتسارع لم يسبق له مثيل في العقود الماضية وباستخدام أساليب تخطيط إستراتيجية ثاقبة الرؤية، إلاَ أننا في معظم الوطن العربي لا نزال نعاني من مشكلات اقتصادية تكاد تكون بلا حلول منظورة على المدى القريب لأسباب عديدة معلومة أو مجهولة لا زالت قيد البحث.
فمن جهة، يعتبر غياب المعرفة والتخطيط الاستراتيجي المنظم هو السبب الأكثر شيوعاً لمعظم تلك المشكلات، الأمر الذي أسّس على مدى عقود من التراكمات لمشكلات يصعب حلها أو تخطيها بسهولة في المدى القريب من أجل اللحاق بركب النمو الذي تسير به الدول المتقدمة، ومن جهة أخرى، فإن غياب ثقافة الشراكة والتحالف أو حتى التعاون بين الشركات والمؤسسات بكافة أشكالها، يعتبر سبباً حديثاً في هذا العصر، وحتى وإن وجد مثل هذا التعاون فإنه غالباً ما يكون تعاون خجول أشبه بالتقليد السطحي الذي لا يرقى للشراكة الحقيقية ويتسبب غالباً في اضمحلال المعرفة نتيجة التخبط ومن ثم سوء التخطيط المشترك، أو شراكة تُرجح مصلحة طرف على آخر بسبب ضعف الأخير، أو حتى شراكة طرفين خاسرين ليصح المثل الشعبي معبراً عن واقعهما معاً عند الشراكة ”إلتم المتعوس على خايب الرجا”، ليحققا فشلاً جديداً ولكن بتوقيعهما معاً. وبطبيعة الحال سنبقى نعوّل على ”التنافس” كأحد مفاتيح استنهاض القدرات والطاقات التي تدفع نحو تحقيق التقدم والنجاح لجميع الأطراف حتى وإن غابت الشراكة، بشرط أن يكون تنافساً شريفاً مثلما يُقال، وإلاّ فإنه سيتسبب بكل تأكيد في فشل جميع المتنافسين.
ولكن الغريب في الأمر أننا في الوطن العربي نقوم بتطبيق واستخدام كل مفاتيح النجاح بدءاً من استثمار المعرفة والتخطيط الجيد وانتهاء بالتعاون والشراكة الحقيقية المثمرة التي تحقق الكثير من الأرباح ولكن للأسف في مجالات استهلاكية بحتة بعيدة كل البُعد عن الإنتاج ولا تعزز من بناء الاقتصاد الحقيقي، ومثال ذلك ما يمكن أن يحدث من شراكة خفية بين قطاعي الاتصالات والفضائيات وتعاونهما معاً في استثمار نسخة مقلدة لبرنامج تلفزيوني ترفيهي عالمي قد يُدر من الأرباح خلال عدة أشهر ما يفوق ميزانية دول عربية بكل مكوناتها ومقدراتها الاقتصادية، والأمثلة كثيرة على تلك الشراكات التسويقية البحتة، والتي تؤسس وبشكل مستمر لبنية هندسية اقتصادية حديثة بالفعل ولكن بطابعها العربي الاستهلاكي الهشّ هذه المرة الذي يشبه إلى حد كبير بناء بيت العنكبوت الذي نشارك يومياً في بنائه.
إن إعادة هندسة وبناء الاقتصاد الحقيقي الصلب بحاجة لرؤية ثاقبة بالفعل وتخطيط قادر على استنهاض واستثمار كل الإمكانات وفي جميع المجالات الإنتاجية الزراعية والصناعية والتجارية، العلمية التكنولوجية والعملية، بشكل تكاملي بعيد المدى، الأمر الذي يلزمه الكثير من الجهود من كل فرد من أفراد المجتمع وكافة أركانه ومكوناته، العام والخاص. كما أنه يتطلب الآن أكثر من أي وقت مضى تعزيز ثقافة العمل والإنتاج والتعاون الحقيقي الذي يؤدي لنجاح المجموع بكل أجزائه من أجل بناء اقتصاد فعّال وخلق تنمية مستدامة تؤسس لمستقبل الأجيال القادمة، ونأمل أن يحدث ذلك قبل انهيار بيت العنكبوت الهشّ، وقبل أن يأتي يوماً نكف فيه عن التصويت في مثل تلك البرامج بسبب انتهاء الرصيد.