الحاجة إلى توحيد القانون البحري
إن الدافع إلى توحيد قواعد القانون الخاص مرده إلى الرغبة في تحديد وتثبيت القواعد القانونية التي تحكم وتنظم بعض المعاملات ذات الأهمية الخاصة على الصعيد الدولي، وقد دلت دراسات القانون المقارن على أنه إذا كانت فروع القانون المختلفة لا تستجيب بدرجة واحدة للتوحيد الدولي فإن القانون البحري على وجه الخصوص، نظرًا لطبيعة قواعده وظروف البيئة التي تطبق فيها والعلاقات ذات الصبغة الدولية التي ينظمها، هو خير ميدان للتوحيد الدولي للقانون.
وترجع أولى الإنجازات في هذا الميدان إلى جهود جمعية تنقيح وتقنين قانون الأمم (بالفرنسية: Association pour la reforme et la codification du droit de Nations) والتي تأسست في بروكسل عام 1873 وتسمت فيما بعد باسم جمعية القانون الدولي (بالفرنسية: Association de droit International).
وبالرغم من أن برنامجها كان شاملا يهدف إلى دراسة إمكانية توحيد القانون الخاص عمومًا، فإن أبرز ما أنجزته كان في ميدان القانون البحري، حيث وضعت قواعد يورك وانفرس سنة 1890 الخاصة بالخسارات المشتركة والتي كان نجاحها سببًا في أن حلت محل النصوص القانونية في معظم الدول.
كذلك وضعت هذه الجمعية قواعد لاهاي سنة 1921 الخاصة بسندات الشحن والتي نقلت عنها معاهدة بروكسل سنة 1924 أحكامها.
المحتويات
جهود اللجنة البحرية الدولية في توحيد القانون البحري
إن القانون البحري، كأحد فروع القانون الدولي الخاص، يدين في المقام الأول باتجاهه الحالي إلى الوحدة الشاملة على الصعيد الدولي إلى الجهود الشاقة والمستمرة للّجنة البحرية الدولية (بالفرنسية: Comite Maritime International) التي تأسست في بلجيكا سنة 1896.
وكانت هذه اللجنة الدولية تعقد سنويًا تقريبًا وبصفة منتظمة مؤتمرات لمناقشة ودراسة توحيد قواعد القانون البحري دوليًا.
وهو ما أسفر في عام 1910 عن وضع معاهدتين دوليتين وهما:
- إحداها خاصة بالتصادم البحري.
- والثانية بالمساعدة والإنقاذ البحريين.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، استأنفت اللجنة جهودها المثمرة، فتوصلت إلى وضع مجموعة هامة من الاتفاقيات في مختلف نواحي القانون البحري وعملت على إقرارها من عدد كبير من الدول. ولم تقف اللجنة عند هذا الحد وإنما عكفت دون هوادة على مراجعة هذه الاتفاقيات بغرض تنقيحها طبقًا لما تمليه الظروف المتطورة وتطويرها وفقًا لمقتضيات الحاجات الجديدة وسد واستكمال ما يفصح عنه تطبيقها من ثغرات أو قصور.
اتجاه توحيد قواعد الإسناد في القانون البحري
وقد كان التفكير قد اتجه في أول العهد بالتوحيد إلى وضع قواعد دولية لحل التنازع بين القوانين، مثل توحيد قواعد الإسناد في كل مسألة من مسائل القانون البحري، ولكن تبين أن هذا الأسلوب وإن كان من شأنه تيسير التعرف على القانون الواجب التطبيق إلاّ أنه لا يوحد بين القواعد الموضوعية للتشريعات المختلفة في المسألة الواحدة، مما يؤدي إلى اختلاف الحل باختلاف القاعدة الموضوعية المطبقة في الحالات المتماثلة، هذا فضلا عما يتضمنه الأخذ بهذا الأسلوب من صعوبة في تفسير وتطبيق القاضي الوطني للتشريعات الأجنبية التي قد تختلف في مفاهيمها ومبادئها عن المفاهيم والمبادئ المطبقة في بلده والتي تشرب بها وشب عليها.
لذلك استبعد هذا الأسلوب واتجه الرأي إلى التوحيد الدولي للقواعد الموضوعية للقانون البحري باتباع أحد أساليب ثلاثة وهي كما يلي:
الأسلوب الأول
وهو الأسلوب الذي اتبعته جمعية القانون الدولي بخصوص قواعد يورك وانفرس وقواعد لاهاي سنة 1921.
ويتمثل في وضع قواعد موحدة لتنظيم مسائل معينة في نطاق العقود البحرية.
ولا يلتزم الأفراد بهذه القواعد إلاّ إذا ضمنوها في عقودهم واتفقوا على اتباعها.
فهي بعبارة أخرى قواعد اتفاقية اختيارية.
ويعيب هذه القواعد افتقادها إلى عنصر الإلزام، مما يجعل الأفراد في حل من اتباعها كلما تعارضت مع مصالحهم.
هذا بالإضافة إلى استحالة اتباعها في حالة تعارضها مع نصوص داخلية متعلقة بالنظام العام.
وقد كان فشل قواعد لاهاي الاتفاقية سنة 1921 سببًا في العدول عن هذا الأسلوب واتباع طريق الاتفاقيات الدولية في توحيد قواعد القانون البحري.
الأسلوب الثاني
وهو أسلوب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ويتمثل في وضع قواعد دولية لحكم المسائل ذات الصبغة الدولية.
وهذا الأسلوب هو الذي اتبعته اللجنة البحرية الدولية.
وتتلافى هذه الطريقة سلبيات الأسلوب الأول.
فقواعد الاتفاقيات الدولية قواعد مُلزمة فضلا عن سريانها بغض النظر عن مسايرتها أو مخالفتها لقواعد القانون الوطني.
ولكن يعيبها ما يترتب على إعمالها من ازدواج النظام القانوني، إذ يخضع النزاع للاتفاقية الدولية أو للقانون الوطني بحسب ما إذا كان دوليًا أو وطنيًا، هذا فضلا عن أنه ليس من الميسور في كثير من الأحيان تحديد العناصر التي تدمغ النزاع بالطابع الدولي واختلاف الفقه والقضاء في الدول المختلفة حول نطاق تطبيق كل من الاتفاقية والقانون الوطني.
الأسلوب الثالث
وهو الأسلوب الأفضل من بين كل الأساليب.
ويتمثل هذا الأسلوب في توحيد التشريعات الداخلية في الدول المختلفة، بحيث تطابق نصوصها أحكام الاتفاقية الدولية. وهذا ما توصي به اتفاقيات بروكسل المختلفة، وإن كانت لا تفرضه حتى لا تنفر منه بعض الدول، حرصًا منها على تحقيق وحدة القانون البحري ولو في مجال المعاملات الدولية وحدها، تاركة لكل دولة حرية تعديل نصوص قانونها الداخلي بما يتفق وأحكام الاتفاقية الدولية من أحكام أو على العكس من ذلك بأن تكون نصوص وأحكام القانون الداخلي مستقلة ومغايرة لنصوص وأحكام الاتفاقية الدولية. وفي بعض الدول قد تفرض الطريقة الأخيرة نفسها نتيجة ما يمليه النظام الدستوري فيها من حلول الاتفاقية محل القواعد الداخلية بقوة القانون، أما في معظم الدول الأخرى فتسري الاتفاقية الدولية جنبًا إلى جنب مع القانون الداخلي، كلٌ في نطاقه، ولكن كثيرًا ما يعدل المشرع الوطني القانون الداخلي على نمط أحكام الاتفاقيات التي أقرتها دولته أو يتبناها في تشريع جديد ينسخ به التشريعات السابقة المخالفة حرصًا منه على تلافي ازدواجية القواعد القانونية.
المصدر
- كتاب القانون الجوي والبحري. دكتور حاتم عبد الرحمن. كلية الحقوق، جامعة عين شمس