الحلول السحرية لمشكلات البحث العلمي
(3) تطوير الإشراف البحثي والأكاديمي
من المتعارف عليه في الأوساط الرياضية أن الهبوط في مستوى النادي الرياضي والفشل في تحقيق الفوز في المنافسات الرياضية عادة ما يتم تحميل مسئوليته للمدربين، بحكم أن تقصيرهم كان السبب في هذا الفشل، مهما تعددت الأسباب، وجرت العادة أن يتم المطالبة بتعيين مدربين جدد للخروج من مأزق رياضي يتعرض له أحد النوادي بعد خسارة كبيرة في منافسة رياضية مرموقة، وفق الاعتقاد بأنه ربما لم ينجح في انتقاء اللاعبين المناسبين أو طرق إشراكهم في اللعب في تلك المنافسة أو لم يقر التدريب المناسب لهم أو حتى لم يستخدم خطة اللّعب الجيدة التي تؤدي للفوز بتلك المنافسة، والغريب أن كل تلك الأسباب تعود بالفعل على المدرب ويصبح هو المسئول عن خسارة الفريق!
ولو تخيلنا أن معظم مدربي كرة القدم مثلاً لا يمتلكون مهارة المدرب الناجح، الذي يجتهد في الكشف عن مواهب لاعبيه وقدراتهم الحقيقية وحدود إمكاناتهم وطريقة لعبهم التي تُميزهم والأماكن التي يُستحسن أن يتحركون فيها بأرض الملعب ويستخدم خطط اللعب المناسبة لهم ويدربهم ويوجههم ويدفعهم للأداء الأمثل، لما استمتعنا بالمباريات والمهارات والأهداف التي يحرزها الكثير من الموهوبين حول العالم، ولربما تراجعت رياضة كرة القدم وفقدت بريقها وأضحت المنافسات المحلية والعالمية واحتفالات الفوز كلها بلا نكهة ولا جمهور وأصبح اللاعب الرياضي يكتفي بشهادة تخرج من ناديه الرياضي تثبت أنه لاعب كرة قدم محترف ومتخصص في حراسة المرمى حتى لو كان مرماه يتلقى عشرات الأهداف في المباراة الواحدة من المباريات التي لا يحضرها الجمهور أصلاً ولا يدري عنها شيئاً!
وإذا صح لنا تشبيه المؤسسة الأكاديمية بالنادي الرياضي، فإن المشرفين الأكاديميين فيها سوف يناظرهم المدربين المتخصصين في الألعاب الرياضية المتنوعة، والطلاب والباحثين سوف يمثلهم الرياضيين أنفسهم الذين يمارسون تلك الألعاب، ووفق هذا التشبيه يُصبح بالإمكان استنباط أحد أهم الأسباب الخفية للتراجع في مستوى التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي ألا وهو أسلوب الإشراف الأكاديمي والبحثي “التقليدي” الذي لم يتطور أو يجاري التقدم الذي طرأ على جميع المجالات الأخرى، هذا بالرغم من تعاظم وتكديس أعداد الخريجين الأكاديميين والباحثين المتخصصين وغزارة وتنوع الأبحاث والدراسات “التقليدية” التي يتم إنتاجها.
ففي الوقت الذي تطورت فيه كل العلوم، من خلال التعمق الرأسي بنفس التخصص والتوسع الأفقي الناتج عن تشابك وترابط كل التخصصات معاً، إلاً أن أسلوب الإشراف البحثي والأكاديمي لم يحظ بالاهتمام الكافي الذي يؤهله لمجاراة هذا التطور وما نتج عنه من متغيرات في هذا العصر المتشابك علمياً واجتماعياً، فهو أمر يستدعي اكتساب المزيد من الثقافة العامة والبحثية والمعرفة المتنوعة في كل التخصصات بالإضافة لعلاقاتها جميعاً بمشكلات المجتمع المحيطة، كذلك فإنها تتطلب قدرات لا يُستهان بها من “الفراسة” التي تساهم في الاستكشاف المبكر لشخصية الباحثين وإمكاناتهم وقدراتهم الفكرية وميولهم واهتماماتهم العلمية والمعرفية واكتشاف مفاتيح توجيههم التوجيه السليم والمناسب ودفعهم للبحث والابتكار بدلا من العمل البحثي التقليدي الذي ساد في العقود السابقة مقارنة بالباحثين في الدول المتقدمة الذين يتجولون في أقاصي الشرق والغرب وحتى شمالاً وجنوباً وصولاً للأقطاب المتجمدة ويركبون البحار والمحيطات ويتسلقون أعالي الجبال ويهبطون في الوديان ويدخلون الغابات والأدغال بحثاً وتنقيباً عن المعرفة وإجراء الأبحاث والتجارب العلمية، حتى وإن طالت مدتها لعشرات السنين، بدافع “غريزة البحث العلمي” والابتكار والاستكشاف وبهدف تسخير المعرفة لصالح البشرية جمعاء.
إن الحلول الجذرية لمثل هذه المعضلة، التي تهدد صناعة المستقبل للأجيال المتعاقبة بشكل تسلسلي، تتطلب مسيرة إصلاح شاملة لثقافة الإشراف البحثي والأكاديمي أولاً، قبل أي شيء آخر، في جميع المستويات الدراسية، بدءاً من المدارس وحتى الجامعات والدراسات العليا، باعتبارها أشبه بعملية مساندة للطفل الذي يبدأ بالمشي على قدميه لأول مرة، فهي عملية شديدة الأهمية في أولى خطوات مشوار البحث العلمي ولا ينفع معها الأسلوب التقليدي أو التلقين والاستنساخ، ولا تجدي معها الاعتمادية الكاملة أو الترك المطلق بدون مساندة وتوجيه، وتتطلب ثقافة عالية وقدرات متميزة تهدف جميعها لتشجيع وتنمية وتطوير غريزة البحث العلمي لدى الطلاب في كل المراحل التعليمية ووضعهم على أول الطريق نحو التميز والإبداع فيما سوف يقدمونه من أبحاث ينبغي أن تتناسب مع قدراتهم واهتماماتهم وتقدم حلولاً حقيقية للمشكلات الملحّة في مجتمعاتهم وتساهم في تقدمها وازدهارها.
بقلم: د. م. مصطفى عبيد