نحو التطوير الإستراتيجي لنظم القيادة والإدارة العليا
(1) ميكنة الأطقم الاستشارية
بالرغم من كل التطور الحضاري الهائل والتقدم العلمي الذي وصل له العالم، وبالرغم من غزارة الاكتشافات والاختراعات الجديدة التي يتوصل لها الإنسان يومياً في جميع المجالات وفي كل بقاع الأرض، إلا أن أسرار العقل البشري ظلت، وربما ستظل لعقود طويلة قادمة، غير قابلة للاستكشاف أو الفهم الكامل لها وسبر أغوارها العميقة التي حيرت العلماء من جميع البلدان على مر القرون السابقة، وربما كان ذلك لحكمة لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى.
وقد دأب العلماء المتخصصين على تبرير الفشل في استكشاف تلك الأسرار وفق تقديراتهم لعظمة العقل البشري واعتباره بأنه من أكثر الأعضاء البيولوجية تعقيداً في العالم، وكيف لا يكون كذلك وهو من صنع الخالق سبحانه وتعالى والقادر وحده على كل شيء، ولكن السبب الآخر، الخفي، والذي يجعلنا نتفهم ذلك الفشل ونؤكد إمكان استمراره لعقود طويلة قادمة وجعلت هذا الأمر يبدو كمعضلة بلا حل قريب هو أن دراسة “عقل” الإنسان ومحاولات فهمه ما هي إلاّ عمليات وإجراءات بحثية تقوم بها “عقول” إنسانية أخرى، عقول لا تزال أسرارها دفينة أصلاً مثلها مثل العقل الذي تتدارسه وتحاول فهمه!!
وفي الوقت الذي يعكف فيه علماء التكنولوجيا على بذل كل الجهود والإبداعات من أجل “أنسنة” الآلة الذكية التي صنعها في مراحل سابقة بحيث يضفي لها ميزة التعلم من الأخطاء الموجودة في العقل البشري من خلال تطعيم برامج تشغيلها بخوارزميات الشبكات العصبية الاصطناعية، التي تعمل بطريقة شبيهة لعقل الإنسان في نقل ومعالجة المعلومات، إلاّ أننا أهملنا استخدام هذا الأمر في كثير من الأمور الإنسانية أصلاً وبخاصة في المسألة الإدارية الأكثر حاجة لها، وتحديداً في أنظمة القيادة والإدارة العليا التي تعتمد في عملها على أطقم المستشارين المتخصصين بنفس الطريقة التي يعتمد فيها عقل الإنسان على الوصلات والعقد العصبية المتنوعة التي تنقل وتعالج المعلومات وتقدم له المشورة وتساعده في اتخاذ القرارات وفق الخبرة المختزنة في الذاكرة.
إن تطبيق مبدأ ميكنة الأطقم الاستشارية في نظم القيادة والإدارة العليا أصبح ضرورة ملحة في هذا العصر، كثير التغير وشديد المنافسة، بخاصة في ظل النمو الأسي للمعلومات والتشابك والترابط الذي تأسس بين القطاعات الحيوية المختلفة في المجتمع والذي يدعو للبحث عن مزيد من الاستشارات وبشكل موسّع في العديد من المجالات، بحيث نُضفي لتلك النظم ميزة التعلم، والتي تعتبر من أهم مميزات العقل البشري، وذلك بإخضاع الاستشارات، أو حتى الأطقم الاستشارية نفسها، لمقياس النجاح والتقييم المتكرر وتحديد الأوزان المناسبة في كل مرة بحسب تدريج يتناسب طردياً مع حُسن التقديرات ومقدار الثقة بها ومدى صحة وفاعلية القرارات التي يتم اتخاذها بناء عليها، تماماً مثلما يفعل عقل الإنسان عندما يفكر في اتخاذ قرار ما بناء على خبرته التراكمية وقياساته المتكررة لأوزان الاستشارات من العقد العصبية التي تُعالج المعلومات ومن ثم يقبلها أو يستبعدها بحسب دقتها وصحتها في مواقف سابقة وما نتج عنها من اتخاذ قرارات صحيحة أو خاطئة.
يبقى أن نُشير إلى أن العقد العصبية في عقل الإنسان تعمل جميعها باستمرار وتقدم الاستشارات في كل المواقف وقد تخطيء أو تصيب في مواضع مختلفة، وسواء تم الأخذ باستشارتها أو لم يتم ذلك فإنها تخضع في كل مرة للتقييم ويتم إعطاءها الوزن الجديد الذي قد يكون أفضل أو أسوأ من سابقه بحسب صحة أو خطأ تقديراتها في مجال معين وبشكل تراكمي، وبنفس الطريقة يمكن لنظم القيادة والإدارة العليا أن تعتمد هذا الأسلوب لاستحداث ما يمكن أن نطلق عليه “خوارزمية المستشارين” التي تساعد على ميكنة الأطقم الاستشارية بهدف الاستفادة المثلى منها في العديد من المجالات وبطريقة مبتكرة لرفع كفاءة وفاعلية تلك النظم وصولاً لأقصى درجات النجاح والحكمة في اتخاذ القرارات.