نحو التطوير الاستراتيجي لمنظومة الأمن – نظريات الإدارة الأمنية الاستراتيجية
(4) مفارقة شخصية رجل الشرطة The Policeman Character Paradox
تُعاني المؤسسات الأمنية في معظم دول العالم، وبخاصة تلك التي تتطلع إلى النجاح، من ضغوطات غير مسبوقة في هذا العصر نتيجة التطور الكبير الذي طرأ على كافة مناحي الحياة في المجتمعات التي تعمل على فرض النظام والقانون وبسط الأمن العام فيها، وبالرغم من أن ذلك التطور ساهم بشكل ملحوظ في رفع كفاءة وفاعلية المؤسسة الأمنية وجاهزيتها في التصدي لكافة أشكال الخروج عن القانون والحد من وقوع الجريمة، أو حتى التنبؤ بها ومنع وقوعها قبل أن تحدث، إلاّ أنه ساهم، بشكل ما، في زيادة العبء الأمني والمسئولية الأمنية نتيجة إفرازه لأشكال جديدة من الأفعال الإجرامية وطرق وأساليب ارتكابها.
ومن غرائب هذا العصر، الإعلامي التفاعلي، أنه ساهم في زيادة الضغوط والتحديات الذاتية داخل المؤسسات الأمنية ربما أكثر من التحديات الاعتيادية المتمثلة في ضبط الأمن والحد من ارتكاب الجريمة، بخاصة فيما يتعلق بالأخطاء الفردية لرجال الأمن والشرطة أنفسهم، والتي تساهم أحياناً في خلق أشكال تكاد أن تكون معكوسة للمخاطر الأمنية التي لم تكن تُعتبر كذلك في العقود السابقة، لدرجة أنه يمكن الآن للخطأ الفردي الذي يرتكبه شرطي مبتدئ في هذا العصر بحق أحد المواطنين، بغض النظر عن موقفه القانوني، أن يؤدي إلى تأليب الرأي العام ويساهم في الإخلال بالأمن والنظام العام وتهديد الاستقرار والسلم الأهلي أكثر مما قد يتسبب به جيش من الخارجين عن القانون من خارج المؤسسة الأمنية!
ويقتضي الإنصاف توضيح حقيقة هذه المفارقة المعكوسة، الإعلامية في ظاهرها والسلوكية الشخصية في جوهرها، وذلك بأنها لم تكن لتحدث لولا اعتياد الكثير من رجال الشرطة والأمن على التعامل مع الخارجين عن القانون بالشدة والحزم، اللازمتين والضروريتين في كثير من الأحيان، والتي ربما لم تكن المؤسسة الأمنية لتنجح في مهماتها في ضبط وردع الخارجين عن القانون إلاّ بإتباعها مع من يستحقها بطبيعة الحال، بل وربما يطالب بها المواطن الذي يبحث عن الأمن أصلاً وقد لا يطمئن إلاّ بوجودها. الأمر الذي أدى بمرور الوقت وبشكل تراكمي إلى صبغ شخصية كثير من رجال الأمن بشيء من الحدة والطابع العدائي الذي يتعارض مع جوهر شخصية رجل الأمن، كما أدى إلى ضعف القدرة على تمييز المواقف، أو حتى الأفراد، الذين ينبغي التوقف عن استخدام تلك الحدة معهم، بخاصة أولئك الذين يتوقعون، ويستحقون، الاحترام والتقدير طالما أنهم ملتزمون بالنظام والقانون.
إن الإدارة الأمنية الإستراتيجية في هذا العصر، وإن كانت تستلزم الكثير من الجهد والتطوير المستمر الذي يهدف للارتقاء بعمل المؤسسة الأمنية بكافة أذرعها وأدواتها ورفع مستوى الكفاءة والفاعلية والجاهزية اللازمة للتعامل مع “الخارجين عن القانون”، إلاّ أنها تستلزم، وبشكل أكثر أهمية، الارتقاء بأساليب التعامل بلباقة مع المواطنين من “غير الخارجين عن القانون”، وتوزيع الأدوار بما يتناسب مع الميول والمهارات والقدرات الشخصية في التواصل مع الجمهور، وبذل المزيد من الجهود التدريبية والتأهيل المناسب والضروري الذي من شأنه أن يجعل رجل الأمن قادراً على ضبط النفس وتمييز أسلوب التعامل المناسب مع الأنواع والفئات والشرائح المختلفة من المواطنين من ذوي الفئات العمرية المختلفة وفي كل الظروف، بطريقة أشبه ما تكون بتلك المتبعة في الإدارة الأمنية الفندقية، والتي يتجنب فيها رجل الأمن ارتكاب أي خطأ قد يؤدي إلى خسارة الفندق لأي نزيل وذلك لمعرفته المسبقة بأن رؤسائه يقدسون مقولة أن “النزيل دائماً على حق”!