قوانين حماية البيئة الفكرية والثقافية واللغوية
لو افترضنا أن كل القوانين والتشريعات الخاصة بحماية البيئة، التي تم التوافق عليها وإصدارها من قبل المنظمات الدولية والتوقيع عليها من معظم دول العالم وتعميم الالتزام بها والتقيد بقواعدها منعاً لانتشار التلوث البيئي الذي يضر بصحة الإنسان على هذا الكوكب، لو افترضنا أنها لم تُصدر حتى اليوم وأن كل ما ينتج من تلوث من المصانع والمركبات وغيرها من الوسائل الأخرى هو أمر مسموح به دون تحمل أية مسئولية شخصية أو دولية، فإن النتيجة المنطقية لهذا الافتراض أن العالم أجمع كان سيتحول إلى مكبّ هائل للنفايات بكافة أشكالها، بخاصة في ظل النقلة الصناعية الكبرى التي ساهمت في توليد التلوث البيئي بأشكال متعددة في كل مكان حول العالم.
فالشوارع مثلاً كانت ستمتلئ بعوادم المركبات من كل حدب وصوب طالما أنه لا يوجد ما يمنعها، والشركات المصنعة لها ما كانت ستبذل أية جهود من أجل تطوير صناعتها والتخفيف من انبعاث العوادم منها، وكذلك الأمر بالنسبة للمصانع التي كانت ستنتشر في كل مكان وتضخ الأبخرة والمخلفات الضارة حتى في وسط الأحياء السكنية طالما أنه لا توجد قوانين متخصصة في حماية البيئة والسكان يمكن أن تمنعها من ذلك. ولكن لحسن الحظ أن الإنسان فكر مبكراً وتوصل إلى الطرق القانونية التي تهدف لحماية البيئة وصحة الإنسان من التلوث البيئي وقام بسنّ القوانين والتشريعات التي تحدد بشكل دقيق السلوك الواجب اتباعه من أجل هذا الغرض والعقوبات التي تفرضها على كل من يتخطى تلك الحدود ويساهم بشكل ما في صنع التلوث.
وإذا تأملنا ما يحدث الآن على الصعيد الفكري والثقافي في معظم دول العالم وفي ظل تطور غير مسبوق في وسائل الإعلام بكافة أشكالها، المرئية والمسموعة والمكتوبة، وانتشار الفضائيات ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي فسوف نجد أنها أصبحت أشبه ما يكون بالأماكن والطرق العامة المتعددة والمتشابكة المليئة بالتلوث الذي يمكن أن ينتج عن عوادم المركبات والمصانع والمتمثل هنا بالتلوث الفكري والثقافي الذي يتم ضخه يومياً من المؤسسات الإعلامية والأفراد ويستنشقه المشاهدون والمستمعون والقرّاء بدون مراجعة أو تدقيق، سواء من حيث صحة المضمون والمحتوى أو حتى من حيث صحة الصياغة واللغة المستخدمة فيها!
وإذا كانت قوانين حماية البيئة قد وُضعت من أجل الحفاظ على صحة الإنسان البدنية فإنه من المنطق والحكمة أن يتم سن وتطوير ما يمكن أن يُطلق عليه قوانين حماية البيئة الفكرية والثقافية واللغوية، وهي القوانين والتشريعات التي تهدف إلى حماية صحة الإنسان الفكرية والثقافية وصحة لغته الأم بنفس الطريقة التي تحميه من التلوث البيئي، وذلك بأن تساهم مثل تلك القوانين والتشريعات في إيجاد المناخ الصحي الذي يناسب تطلعاته وطموحاته، ويتناسب مع تحديات هذا العصر المليء بالعوادم والأبخرة الفكرية والثقافية واللغوية الضارة بكل ما تحمله من مؤثرات سلبية على الصحة المعرفية للمواطنين بشكل عام.
وإذا كانت قوانين المرور تفرض احترام القواعد المرورية في الطرقات لتسهيل الحياة اليومية ومنع تكدس المركبات والازدحام والحد من الحوادث وكذلك الحد من التلوث والمحافظة على البيئة الصحية للمواطنين بشكل عام، والتي تتمثل عقوبة مخالفتها غالباً بدفع الغرامات المالية أو سحب رخصة القيادة من السائق المخالف، فإن قوانين حماية البيئة الفكرية والثقافية واللغوية يمكنها أيضاً أن تفرض احترام “القواعد المرورية الفكرية والثقافية واللغوية” في “الطرقات الافتراضية” المتمثلة في وسائل البث التلفزيوني والفضائيات والإذاعة والجرائد والمجلات ومواقع الإنترنت وحتى صفحات التواصل الاجتماعي، بحيث تهدف إلى منع التلوث الفكري والثقافي واللغوي في المجتمع والمحافظة على البيئة الصحية الفكرية والثقافية واللغوية للمواطنين من خلال اشتراط استحداث آليات واضحة ومحددة للمراجعة والتدقيق والتصحيح لكل ما يتم تداوله من معرفة بكافة أشكالها وتوقيع الغرامات على المخالفين تماماً مثلما يحدث عند مخالفة سائقي المركبات للقواعد المرورية.