فلسفة وأسس قوانين الضمان الاجتماعي في القانون المقارن

فلسفة وأسس قوانين الضمان الاجتماعي في القانون المقارن

الثقافة السائدة في المجتمع ونظرية الاحتمالات

لو قمنا بفحص وتدقيق القوانين والتشريعات المتعلقة بالتأمين الاجتماعي في القانون المقارن لوجدنا أنها تختلف من دولة إلى أخرى وفقاً للعديد من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة، بل وحتى وفقاً لاعتبارات العادات والتقاليد والثقافة السائدة وأسلوب الحياة الدارج في المجتمع في كل دولة من تلك الدول، وذلك باعتبار أن المشرّع يقوم بوضع القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين جميع الأطراف المعنية في قانون الضمان الاجتماعي وفقاً لتلك الاعتبارات وتماشياً مع الثقافة السائدة في المجتمع بما يضمن نجاعة القانون وضمان استمرار فاعليته وتحقيقه للأغراض الاقتصادية والاجتماعية التي وُضع من أجلها.

فالثقافة السائدة في المجتمع الفرنسي، مثلاً، وفي الكثير من مجتمعات الغرب، تختلف في شكلها ومضمونها من حيث مدى الترابط الأسري وأشكال تحمل المسئولية المتبادلة بين الآباء والأبناء وحجم تلك المسئوليات عنها في المجتمعات العربية، وهذا الاختلاف جعل المشرّع الفرنسي لأن يؤسس قانون الضمان الاجتماعي ويضع قواعده بشكل يتناسب مع تلك الثقافة، بحيث يحقق هذا القانون للعامل أهداف الادخار طويل المدى والذي ينتهي بنهاية خدمته والحصول على راتب تقاعدي أو مكافأة نهاية الخدمة يخطط لاستخدامها في تلك المرحلة بطرق شتى، قد تكون بدء مشروعه الخاص أو حتى القيام بجولة سياحية حول العالم!

في حين أن الثقافة السائدة في المجتمع العربي تدفع الأفراد، في كثير من الأحيان، إلى التضحية بمبدأ الادخار في سبيل توفير سيولة وقتية من أجل تحقيق أغراض أسرية موسمية أو طارئة كشراء السكن أو تعليم أو تزويج الأبناء وغيرها من الالتزامات الأخرى التي تختلف في شكلها ومقدارها عن دول الغرب، وتتحول بذلك قواعد قانون الضمان الاجتماعي وفلسفته الادخارية، التي يُفترض أنها وُضعت من أجل مصلحة العامل، إلى عائق أمام قدرته على توفير تلك السيولة الوقتية وحاجزاً أمام وفاءه بتلك الالتزامات. الأمر الذي يدعو إلى إعادة النظر في الأساس الفلسفي لقوانين الضمان الاجتماعي في المجتمع العربي وإعادة بناءها على أسس اجتماعية تتناسب مع العادات والتقاليد والثقافة السائدة في المجتمع العربي وأشكال تحمل المسئولية التبادلية بين الآباء والأبناء في المراحل العمرية المختلفة وغيرها من الخصائص المميزة للمجتمع.

من جهة أخرى، وبالرغم من الاختلافات في الأسس الفلسفية بين القوانين والتشريعات المتعلقة بالضمان الاجتماعي في القانون المقارن، والناتجة عن الاختلافات بين المجتمعات، إلاّ أنها تتفق جميعها، أو ينبغي أن تتفق، من حيث الاشتراك في الأسس الرياضية والإحصائية التي يتم استخدامها في وضع القواعد القانونية المختلفة لقانون الضمان الاجتماعي، ومن أهم تلك الأسس المستخدمة في هذا الشأن هي نظرية الاحتمالات المستخدمة في تحليل وإدارة مخاطر التأمين بكل أنواعه، وأكثر ما يظهر هذا الأساس الرياضي بشكل جلي في قواعد القانون المتعلقة بتحديد الأرقام والنسب المئوية للمساهمة في صندوق الضمان الاجتماعي وكذلك في القواعد المتعلقة بتحديد نسب ومعدلات وحجم المكافآت المخصصة للعاملين في نهاية الخدمة وغيرها من الأرقام والنسب لتي ترد في قوانين الضمان الاجتماعي في كل الدول حول العالم.

وتكمن أهمية علم الإحصاء ونظرية الاحتمالات واستخدامها في تحليل وإدارة المخاطر في قوانين الضمان الاجتماعي في أنها تساعد المشرّع الوطني على تحديد الأرقام والنسب المئوية المستخدمة في القواعد القانونية المختلفة بشكل يتناسب مع المعطيات والدلالات الإحصائية والاحتمالات القائمة في المجتمع في الفترة التي يتم فيها إعداد قانون الضمان الاجتماعي، أو حتى تطويره، بحيث يضمن المشرّع وضع قواعد قانونية تحقق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للقانون برمته بشكل مثالي كما أنه يضمن بذلك أن يستمر صندوق الضمان الاجتماعي في تحقيق تلك الأهداف في المستقبل في كل الظروف ووفق كل الاحتمالات. أي أن المشرًع يقوم بما يمكن أن يُطلق عليه “التشريع باستخدام نظرية الاحتمالات من أجل مواجهة كل الاحتمالات”.

ففي تشريع يهدف للتأمين الاجتماعي في مجتمع ما، فإنه ينبغي صياغة قواعد قانونية تُحدد فيها الأرقام والنسب المئوية المختلفة بقيم تتناسب مع الإحصائيات والاحتمالات القائمة والسائدة في هذا المجتمع، ومن أمثلة ذلك إذا كنا بصدد صياغة قواعد قانونية تحدد نسبة مساهمة العامل وصاحب العمل في الصندوق والمدة الزمنية اللازمة للاشتراك فيه من أجل الحصول على الراتب التقاعدي وقيمة هذا الراتب وغيرها من الأرقام والنسب المئوية، فإنه ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار متوسط الأعمار السائد في هذا المجتمع ومعدل الوفيات ومعدلات سنوات الخدمة والحد الأدنى والحد الأقصى للبقاء فيها ومعدلات الاستقالة أو إنهاء الخدمات، ومعدل وقوع إصابات العمل والأمراض المهنية التي تلحق بالعامل في الوظائف والمهن المختلفة ونوعيتها، ومتوسطات تكاليف علاج تلك الإصابات والأمراض، وكذلك معدلات التضخم وغلاء المعيشة وغيرها من الإحصائيات الاجتماعية والاقتصادية العديدة المتوفرة في نفس المجتمع، وذلك بهدف وضع القواعد القانونية المناسبة والأقرب لتحقيق أهداف قانون الضمان الاجتماعي وبما يضمن إدارة المخاطر بالشكل الأمثل وضمان استمرارية تحقيق تلك الأهداف في المستقبل وإمكانية الوفاء بالالتزامات المترتبة عليها في كل الظروف ووفق كل الاحتمالات.

كما يتطلب الأمر تجنب استنساخ وتقليد قوانين الضمان الاجتماعي في مجتمعات أخرى غير المجتمع الذي يتم إعداده أو تطويره فيه، والاستعاضة عن ذلك بالمواظبة على إعداد الأبحاث والدراسات التحليلية والإحصائية المتخصصة في المجتمع بشكل متكرر بهدف التجديد المستمر للرقم الإحصائي الخاص به باعتباره الأساس الرياضي المهم الذي يستند إليه المشرّع الوطني ليس فقط في إعداد قانون الضمان الاجتماعي في بلده، وإنما في تجديد وتطوير قواعده القانونية بشكل دوري يتوافق مع مستجدات العصر ومتطلبات التغير الاجتماعي من زمن لآخر، بحيث يُضفي على قانون الضمان الاجتماعي سمة الديناميكية الإيجابية اللازمة لمواكبة تلك التغيرات والمستجدات وبما يضمن استمرار ارتباطه بخصائص المجتمع من جهة وتحقيق حالة التوازن في مصالح جميع الأطراف المعنية بالقانون وبشكل استراتيجي من جهة أخرى.

يبقى التأكيد على أن مفهوم الضمان الاجتماعي يجسد حالة من التكافل الاجتماعي بين مختلف شرائح وطبقات المجتمع، وهو مبدأ إسلامي أصيل، وقد قامت على هذا المبدأ العديد من قوانين الضمان الاجتماعي في القانون المقارن حتى في الدول غير المسلمة، ففي دولة مثل فرنسا مثلاً يقوم قانون التأمين الاجتماعي فيها على مقولة واحدة فقط وهي “من كلٍ وفق قدرته إلى كلٍ حسب حاجته”، de chacun selon ses moyens, à chacun selon ses besoins، وهذه المقولة تلخص كل ما يمكن أن يُكتب عن التكافل الاجتماعي وإن كانت مستمدة من الفكر الاشتراكي. وإذا كان الأمر كذلك فإنه من باب أولى أن تقوم عليها فلسفة ومضامين قوانين الضمان الاجتماعي في المجتمعات العربية المسلمة.

  • بقلم د. م. مصطفى عبيد
error:
Scroll to Top