نحو تطوير الفنون والثقافة الفنية والتذوق الفني
(4) تطوير الشخصيات الفنية
عند مراجعة بعض القصص العالمية، وبخاصة تلك الحائزة على جوائز تقديرية رفيعة المستوى، يمكن ملاحظة أنها جميعاً تشترك في أمر يكاد أن يكون هو السبب الوحيد والخفي لتميزها وتفوقها، والمتمثل في الإبداع في تصوير الشخصيات الأساسية في تلك القصص، لدرجة أننا قد نظن للوهلة الأولى وكأن تلك الشخصيات هي التي تفوز بتلك الجوائز، وقد تدفع مثل هذه الظنون في لحظة ما بعض المشاهدين من المتخصصين والنقّاد إلى الدرجة التي ينتظرون فيها خروج تلك الشخصيات الوهمية من خلف الكواليس إلى المنصة لاستلام الجائزة التي تفوز بها مثل تلك النوعية من الروايات!!
وحقيقة هذه المسألة، الإبداعية، أنها تلخص ما يمكن أن نطلق عليه مفتاح التميز في الأدب بمختلف لغاته وقومياته وانتماءاته، باعتباره وسيلة لإظهار الشخصية المميزة لتلك البلدان والقوميات التي ينتمي لها كل مبدع يقوم بتأليف روايته، وذلك بغض النظر عن أحداثها، بحيث يمكن للرواية أن تتمحور حول تلك الشخصية وتُظهر باستمرار التفاصيل والسمات المميزة لها، وبخاصة الإيجابية التي يُمكن أن يُحتذى بها، والتي لم نكن لنعرفها لولا وجودها في سياق تلك الرواية، بل والأكثر من ذلك أن الرواية برمتها ربما يتم صياغتها بهذا الشكل الذي يتسق مع تلك الشخصية التي يتم ابتكارها من أجل هذا الهدف أصلاً!
وبالرغم من التطور الكبير الذي أثر إيجاباً على مستوى الإنتاج الفني العربي واستخدام التكنولوجيا والإمكانات والأدوات الفنية عالية المستوى التي وفرها العصر الحديث، إلاّ أننا لا زلنا نشهد تراجعاً ملحوظاً في الشق الأدبي المغذي لتلك الفنون بكافة أشكالها، تراجعاً يمكن توصيفه بشكل دقيق على أنه نتيجة منطقية لتراجع قدرة الكتّاب والمبدعين على إظهار وتوصيف الشخصية العربية النموذجية التي تتناسب مع مفرزات هذا العصر المليء بالصراعات الفكرية والاجتماعية، الشخصية التي يمكن التعويل عليها لتكون مثالاً نموذجياً يُحتذى به للأجيال القادمة، ويتمحور حولها العمل الفني ويستند عليها لتكون وسيلة لإنجاحه ووصوله إلى مستوى العالمية.
وما يحصل الآن في معظم الأعمال الفنية أنها تقوم بالتركيز على إظهار شخصيات مختلفة ومتنوعة تتدرج من الاقتراب لأن تكون رجعية أحياناً أو أن تكون متحررة إلى درجة الانحلال أحياناً أخرى أو تشوبها الشوائب من زوايا مختلفة للرؤى، بحيث أصبح المشهد الفني والأدبي بشكل عام وكأنه صراع خفي يدور بين كل تلك الشخصيات المنقوصة وسط حالة من الإهمال والتهميش العجيب للشخصية الوسطية المتوازنة التي تقع في منتصف المسافة بين كل تلك الشخصيات، الشخصية التي تجمع ما بين الأصالة من حيث المبادئ والقيم والمُثل التي تتبناها وما بين التحضر والتحرر المعقول والمقبول دينياً واجتماعياً الذي تنتهجه في حياتها اليومية، وهي الشخصية التي يمكن أن تمثل غالبية أفراد المجتمع إحصائياً.
إن فلسفة تطوير الشخصيات المحورية في الأدب ينبغي أن تكون هي المفتاح والأساس القوي الذي تستند عليه مسيرة تطوير الآداب المغذية لكافة أشكال الفنون، وذلك باعتبارها أحد أهم أركانه، الفنية، ولكنها أيضاً، وبشكل أكثر أهمية، ينبغي أن تكون الوسيلة المثلى للارتقاء بتلك الفنون ووصولها إلى مستوى العالمية من خلال إظهار أفضل ما فيها من خصائص تميزها وتجتمع عليها أغلبية أفراد المجتمع وبما يضمن كل من مصداقية وواقعية العمل الفني من جهة والتأثير الإيجابي الذي يعود على المجتمع عندما يتم إظهارها بالشكل الأمثل الذي يؤسس في نفوس أفراده من الأجيال المتعاقبة الانتماء لتلك الشخصية باعتبارها القدوة الصحيحة لهم من جهة أخرى.