الحلول السحرية لمشكلات البحث العلمي (1) المنافسات البحثية المتسلسلة المشروطة

الحلول السحرية لمشكلات البحث العلمي

(1) المنافسات البحثية المتسلسلة المشروطة

لعبت المنافسات الرياضية على مر العصور الدور الأكبر والأهم في تطوير كافة الألعاب الرياضية الفردية والجماعية من حيث الأسلوب والمهارة للمتنافسين أو حتى الأسس الفنية والقوانين الخاصة بكل الألعاب وطريقة اللعب والتنافس فيها. وقد كانت مسألة التنافس هي المحرك الأكبر والخفي لهذا التطوير نظراً لما وفرته من دوافع للتميز والإبداع بهدف تحقيق الأرقام القياسية والفوز بالكؤوس والميداليات والجوائز الرمزية والنقدية المتنوعة في بيئة يشارك فيها متنافسون من كل المستويات ومن جميع أنحاء العالم.

وقد تعددت أشكال الاستفادة في الألعاب الفردية والجماعية للأفراد والفرق الرياضية من مثل تلك المنافسات بطريقة ساهمت في رفع مستوى الرابحين والخاسرين فيها على حدٍ سواء، وذلك من خلال ما وفرته تلك المسابقات من احتكاك مباشر وغير مباشر ساهم في رفع مستوى جميع المشاركين، وغير المشاركين، فيها فنياً. ولو كانت كل المنافسات الرياضية تجري لمرة واحدة فقط لما استمرت المسيرة الرياضية بهذا المنحنى التصاعدي ولأصابها الفتور وتوقفت عن التطور في كل الألعاب، تلك الاستمرارية التي وفرتها آلية “التكرار الدوري” الذي يعيد إيجاد الدوافع والآمال بتحقيق الفوز للخاسرين ويحثهم نحو التطوير وبذل المزيد من الجهود الإضافية من أجل الفوز في المسابقات التالية أو حتى من أجل تحطيم الأرقام القياسية أو الحفاظ على النجاح للرابحين أنفسهم، إضافة لتشجيع آخرين لم تسنح لهم الفرصة بالمشاركة أصلاً.

وإذا صح لنا استخدام آلية التنافس الرياضي وتطبيقها في مجال البحث العلمي، أو حتى في أي من الأنشطة العلمية الأخرى، سيكون لدينا من الفوائد ما يفوق كل الجهود المبذولة في تطوير مسيرة البحث العلمي، فمن جهة ستعمل على تشجيع البحث العلمي بشكل عام واستفزاز طاقات البحث والتفكير العلمي وتوسيع المشاركة لتضم شرائح أكبر من الباحثين الخاملين، ومن جهة أخرى سوف تلعب الدور الأكبر والمهم في توفير بيئة الاحتكاك بين الباحثين من مختلف المستويات والتخصصات لتعميم الاستفادة والتطوير المستمر من حيث الأفكار والأسلوب والمنهجية أو حتى المهارات الشخصية وغريزة وثقافة البحث العلمي بشكل تسلسلي متصاعد.

كما أن الإمكانات المادية والميزانيات المخصصة للبحث العلمي، التي شكلت عائقاً أمام مسيرة البحث العلمي برمتها على مر العقود، يمكن تذليلها الآن عن طريق عقد المسابقات و المنافسات البحثية المتسلسلة الدورية ذات الجوائز النقدية “المشروطة” بالمشاركة بمزيد من الأبحاث في مسابقات تالية، الأمر الذي من شأنه العمل على التوفير والاقتصاد في الميزانيات المخصصة للبحث العلمي بشكل استراتيجي بعيد المدى، وهو ما سيؤدي لتوسيع المشاركة أفقياً لتشجيع المزيد من الباحثين ورأسياً لتعميق البحث والابتكار في تخصص معين.

ففي مسابقة بحثية يمكن أن يتقدم لها 100 باحث مثلاً يتم تقديم جائزة نقدية لأفضل عشرة بحوث بشرط أن يقوم الفائزون بتلك الجائزة بالمشاركة في المسابقة التالية بتقديم أبحاث بمستوى أعلى وأكثر تخصصاً بهدف الحصول على جوائز أكبر، وبهذا نكون قد وفرنا ميزانية لعشرة أبحاث جديدة ومتخصصة في المستوى الأعلى بدون أية تكلفة وفقط من خلال استثمار الجوائز النقدية التي حصل عليها أولئك الباحثون الذين لم نكن لنعرفهم أصلاً لولا هذه النوعية من المسابقات، إضافة لإنجاز عدد 90 من الأبحاث الأخرى قد يكون لها عظيم الفائدة في نفس المجال حتى وإن لم تفز بالمراكز الأولى.

وفي الوقت الذي قد يهدف فيه الباحث للاستكشاف والمعرفة أو حتى الابتكار من خلال البحث العلمي وفق دوافع شخصية غريزية بحتة، إلاّ أن مسألة الفوز بالجوائز النقدية، مهما كانت بسيطة، قد تكون الوسيلة المثلى لتوجيه قدرات الباحثين المتميزين واستثمار وقتهم وجهدهم “القادم” لصالح البحث العلمي عوضاً عن قضائهم لهذا الوقت في العمل على توفير الدخل، كما أنهم قد يستثمرون قيمة الجائزة النقدية التي يحصلون عليها في عمل الأبحاث الجديدة الأكثر تخصصاً وفق آلية عمل المنافسات المتسلسلة المشروطة، بحيث تخفف عنهم عبئ تحمل تكاليف تلك الأبحاث على نفقتهم الخاصة، وهو العائق الذي ساهم أكثر من غيره في تعطيل مسيرة البحث العلمي أصلاً، بخاصة عند الباحثين الذين يمتلكون غريزة البحث العلمي بشكلها الخالص.

إن مسألة تشجيع البحث العلمي من خلال المسابقات و المنافسات البحثية المتكررة والمشروطة قد تتعدى حدود التوفير في الميزانيات أو الاستفادة العلمية من الأجيال الحالية من الباحثين والمبتكرين وتوجيههم لاستثمار الوقت والجهد في البحث العلمي لتمتد إلى بناء جسور الاهتمام بالبحث العلمي بكافة أشكاله للأجيال القادمة تماماً مثلما يحدث في المسيرة الرياضية، فهي سوف تؤسس لإيجاد الحافز المستمر للباحثين والفرق البحثية المتنوعة لمشاركتهم فيها من جهة وتطوير مسيرتهم البحثية بشكل متصاعد للمستويات الأعلى من جهة أخرى، الأمر الذي سيعود بالنفع على مجمل المسيرة البحثية بمرور الزمن وضمان استمرار توارث ثقافة وغريزة البحث العلمي للأجيال المتعاقبة، بنفس الطريقة التي أثرت على المسيرة الرياضية وتطورها وتكاثر الرياضيين والفرق الرياضية وتميزها وإبداعها في جميع الألعاب.

بقلم: د. م. مصطفى عبيد

error:
Scroll to Top