نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة (2) المعايير العقلية للمحتوى النموذجي

نظريات تطوير المناهج التعليمية الحديثة

(2) المعايير العقلية للمحتوى النموذجي

تُعتبر القراءة من أهم الوسائل التي تساعد على اكتساب المعارف العامة والمتخصصة في كل المجالات، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى أوصى بها في أول كلمة من كلمات القرآن الكريم، وقد جرت العادة أن يلجأ الأفراد لقراءة الكتب المتنوعة لتوسيع معارفهم وفتح آفاق جديد في طرق تفكيرهم ورؤيتهم للعالم المحيط بهم، وقد يلجأ البعض لقراءة الكتب المتخصصة بهدف تعميق فهمهم وتمكنهم من تخصصات معينة بحسب احتياجاتهم الأكاديمية أو المهنية بكل أنواعها، والغريب في مسألة القراءة العامة، وربما المتخصصة في بعض الأحيان، أنها قد تبدأ بشرارة لسؤال ما، أو مجموعة من الأسئلة تدور في ذهن القارئ وتدفعه لقراءة أحد الكتب التي يعتقد أنها سوف توفر له الإجابة الشافية لها، وبالرغم من ذلك قد تجده بعد قراءته للكتاب يفاجأ بأنه لم يتوصل إلى تلك الإجابة، وربما أدت قراءته لظهور أسئلة جديدة في ذهنه، والتي هي بحاجة لإجابات أيضاً، أو بالأحرى لمزيد من القراءات!.

وحقيقة هذه المعضلة المتسلسلة اللانهائية أنها ناتجة عن طبيعة الكتب وأهدافها وما تحتويه من أفكار ورؤى متعددة تعكس وجهات نظر كتّابها وقناعاتهم ومعتقداتهم في قضايا متنوعة في مختلف المجالات، أو حتى انتقاداتهم لوجهات نظر قد طُرحت في كتب أخرى أو يجري تناولها وتداولها في وسائل مختلفة عن الكتب، وبالرغم من استحالة وجود التشابه بين الكتب العامة من حيث الشكل أو حتى المضمون إلاّ أنها تشترك في سمة أساسية خفية، تساهم في أنها تتسبب في إثارة الأسئلة الجديدة لدى القارئ بشكل متسلسل وتدفعه لمزيد من القراءات بدلاً من توفير الإجابات الشافية له، وهي أنها تشترك جميعها في أنها ذات محتوى “غير نموذجي”، أو بمعنى آخر ذات محتوى مشكوك فيه، وهو الأمر الذي يؤكده قول الله عز وجل عن كتابه العزيز (القرآن الكريم) بأنه “لا ريب فيه”، وكأن في ذلك إشارة ضمنية بأن كل الكتب قاطبة هي محل شك بشكل أو بآخر.

وبالرغم من التطوير الدوري للكتب والمناهج التعليمية المقررة على طلاب المدارس إلاّ أنها تظل مناهج قاصرة وتفتقد للوصول إلى مستوى المحتوى الذي يمكن أن نعتبره نموذجياً بالمعنى المطلق، والذي يناسب كل أنواع الطلاب والبيئات التعليمية ويتوافق مع متطلباتهم المتنوعة وفروقاتهم الفردية ويؤدي أهدافه التعليمية في كل الظروف والأحوال مهما كانت متغيرة ومهما كان تأثيرها على الطالب أو أي ركن من أركان منظومة التعليم برمتها، وبذلك فإنه يقتضي الإنصاف توضيح أحد أهم أسباب ذلك القصور بأنه ناتج عن عدم وجود عقل نموذجي للطلاب أصلاً حتى يتم القياس عليه، بحيث أضحت كل عمليات التطوير والتحديث وكأنها محاولات لقياس كمية فيزيائية مجهولة، كالوزن مثلاً، دون أن تتوفر الموازين التي تُستخدم لهذا الغرض!

ومن أجل التغلب على هذه المعضلة، التربوية، والمُضي قُدماً في تطوير المناهج بشكل تراكمي وحتى الوصول إلى المحتوى النموذجي، بقدر الإمكان وبأقل المخاطر التعليمية التي يمكن أن تلحق بأقل عدد من الطلاب، فإنه ينبغي البدء بوضع المعايير المناسبة أولاً، والتي يمكن القياس عليها وبناء وتطوير المناهج وفقاً لها ولمتطلباتها، المعايير التي تلبي احتياجات العقل النموذجي “المُفترض”، والتي يمكن استخلاصها من طبيعة القدرات والمهارات الأساسية التي يقوم بها عند معالجته وبحثه لمسألة ما أو محاولة حله لمعضلة معينة، وبذلك تكون هذه المواصفات والأسس البنائية هي المطلوب توفرها في محتوى المنهج التعليمي ليكون نموذجياً، والذي يمكن بذلك أن يحقق أقصى درجات النجاح في تحقيق الأهداف التعليمية لأكبر عدد من الطلاب وفي كل الظروف.

ومهما تعددت وتنوعت المناهج التعليمية فإن المحتوى الأقرب لأن يكون نموذجياً هو المحتوى الذي يحقق شروط ومتطلبات المهارات والقدرات العقلية، النموذجية، القدرات التحليلية المتنوعة التي يستند عليها العقل في أسلوب تعامله وعملياته مع كل ما يحيط به من حيث “التجزئة والترتيب والتتابع والتراكم والتكامل والترابط والتركيب” لكل ما يحتويه ذلك المحيط، وبطبيعة الحال سوف تكون سمات ونتائج تلك العمليات هي المطلوب توفرها في محتوى المناهج التعليمية لتصبح نموذجية أيضاً، بحيث ينبغي أن تكون الموضوعات فيها “مجزأة” بالشكل الصحيح، و”مرتبة” بالشكل المناسب، وفي “تتابع” منطقي، و”تراكم” بنائي تصاعدي، و”متكاملة” و”مترابطة” بالقدر اللازم والضروري، وقابلة “للتركيب” لإظهار الصورة النهائية المقنعة للعقل. وبتلك المواصفات والمعايير فقط سوف يكون محتوى المناهج التعليمية محققاً لشروط القبول والانسجام العقلي أولاً ومتفقاً مع أسلوبه وعملياته ومتوافقاً مع طبيعة قدراته ومهاراته المتعددة.

error:
Scroll to Top