المحتويات
طبيعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي
المجلس الاقتصـادي والاجتماعي فرع رئيسي من فروع الأمم المتحدة. وقد خصص الميثاق الفصل التاسع منه لبيان قواعد التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي بين أعضاء الأمم المتحدة، كما خصص الفصل العاشر منه لبيان الأحكام التي تنتظم تأليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي ووظائفه وسلطاته.
والمجلس الاقتصادي والاجتماعي لم يكن له نظير من قبل. فالمادة الثانية من عهد عصبة الأمم قد حددت الفروع التنفيذية للعصبة تحديدًا حصرها في جمعية عامة ومجلس العصبة، تقوم إلى جانبهمـا أمانة دائمة (1). ومع ذلك فلم تخفَ على منشئ العصبة أهمية التعاون الدولي في الشئون الاقتصادية والاجتماعية وما لهذا التعاون من أثر في إقامة السـلم الدولي على دعائم مكينة، فذكروا صراحة في الجزء الثالث عشر من معاهدة فرسايل – الذي أقام هيئة التنظيم الدولي للعمل – أن السلم الدولي يقوم على العدالة الاجتماعية، وأنه يجب لذلك تحقيق التعاون الدولي في سبيل تحسين ظروف وملابسات العمل والعمال. وقد اعترفت ديباجة عهد عصبة الأمم – كما اعترفت المادة 23 من العهد – بالحاجة الماسة إلى التعاون الدولي في هذا الميدان، ووضعت الأسس للعمل الذي سوف تقوم به عصبة الأمم في ميادين الاقتصاد والاجتماع والمسائل الإنسانية الأخرى.
وكان لنشاط العصبة في هذه الميادين أكبر الأثر فيها، ونجحت نجاحًا ملحوظًا في إقامة التعاون الدولي لخير الإنسانية جمعاء (2).
وعلى أثر انهيار نظام عصبة الأمم المتعلق بالأمن الدولي بذل مجلس العصبة محاولة لإنقاذ التعاون الدولي في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بإقامة هيئة منفصلة تعمل على تحقيق هذا التعاون تحت رعاية العصبة بالنظر إلى النتائج الحميدة التي تترتب عليه. وبالفعل أقام مجلس العصبة في 27 من مايو سنة 1939 لجنة سميت بلجنة بروس Bruce Committee، وعهد إليها العناية بهـذا الأمر.
وقد رفعت هـذه اللجنة تقريرها في 22 أغسطس من السنة عينهـا اقترحت فيه على الجمعية العامة للعصبة إنشاء فرع جديد يُعرف باسم اللجنة المركزية للمسـائل الاقتصادية والاجتماعية Central Committee for Economic and Social Questions ويؤلف من ممثلي أربع وعشرين دولة تنتخبهم الجمعية العامة، ويكون اختصاصه الإدارة والإشراف على عمل جميع لجان العصبة المختصة بالنظر في التعاون الدولي في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بقصد العمل على إنماء هذا التعاون، وتنسيق جهود الدول في هذا السبيل. غير أن هـذا المشروع لم يرَ التنفيذ بالنظر إلى توتر الحالة الدولية وقتذاك ونشوب الحرب العالمية الثانية (3).
ولقد كان لعمل العصبة في هذا السبيل أثر خطير آخر، هو لفت النظر إلى أهمية تسوية المشكلات الدولية الاقتصادية والاجتماعية، وما لهـذه التسوية من أثر حاسم في تمكين الدول من الحياة معًا في أمن وسلام، وفي تهيئة الأسباب لإقامة السلم والأمن الدولي على أسس سليمة مكينة. ويُضاف إلى ذلك أن المشكلات الدولية التي فرّقت بين الدول قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية كان يغلب عليها جميعًا الطابع الاقتصادي والاجتماعي، أو كانت لها نواحيها الاقتصادية والاجتماعية، بل أن الأسباب الحقيقية لقيـام الحرب العالمية الثانية كانت التنافس الدولي في ميدان الاقتصـاد، وتفرق الدول شيعًا في مذاهبها الاقتصادية والاجتماعية.
لذلك لم يفت سمنر ويلز عندما وضع المشروع الذي وافق عليه قسم شئون ما بعد الحرب في وزارة الخارجية الأمريكية أن يحمل “المجلس التنفيذي المؤقت” الذي سبق الكلام عنه تبعة إنشاء هيئات تعني بوضع الحلول للمشكلات الاقتصادية، وتعمل على تيسير شئون الإتجار بين مختلف الدول، وعلى تثبيت العملة، وعلى تحديد سعر الصرف، وعلى إنماء الزراعة، وتنظيم المواصلات، وتوزيع القوى الكهربائية، وما إليهـا من المسائل التي تهم الاقتصاد العالمي، على أساس أن السلم الاقتصادي يُعد شرطًا أساسيًا لقيام السلم السياسي.
وتقدمت مقترحات دمبـارتون أوكس خطوة جديدة في سبيل العناية بهذه المسائل والعمل على إقامة التعاون الدولي في هذه الميادين. فقد جاء بالباب التاسع من المقترحات أنه “رغبة في إيجاد حالة من الاستقرار والرفاهية اللازمة لقيام علاقات السلم والمودة بين الأمم، تسهل الهيئـة حل المسائل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الأخرى وتعمل على زيادة احترام الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية. وتلقي مسئولية الاضطلاع بهذا الواجب على عاتق الجمعية العامة وعلى عاتق مجلس اقتصادي اجتماعي يعمل بسلطتها”. ثم بينت المقترحات بعد ذلك طريقة تشكيل هذا المجلس، ونظام التصويت فيه، وما له من وظائف وسلطات. إلا أنه يبدو ظاهرًا من مقارنة الأحكام التي وردت بالباب التاسع من المقترحات بأحكام البـاب الرابع منها أن المجلس الموكول إليه العمل على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية يباشر وظائفه تحت سلطة الجمعية العامة بوصفه فرعًا تابعًا، وأنه لا يُعد من الفروع الرئيسية للهيئة المزمع إقامتها.
وقد أدخل مؤتمر سان فرانسيسكو على مقترحات دمبارتون أوكس تعديلات جوهرية فيما يتعلق بطبيعة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والوظائف الموكولة إليه، والسلطات المخولة له. ففيما يتعلق بطبيعة المجلس تقدمت مصر – واشتركت معها دول عديدة – باقتراح النص على اعتبار المجلس الاقتصادي والاجتماعي فرعًا رئيسيًا من فروع الهيئة في المادة التي تعدد تلك الفروع. وقُبل هـذا الاقتراح، وأُثبت في المادة السابعة من الميثاق.
غير أن من يتفحص أحكام الميثـاق بدقة يلمس فرقًا في الطبيعة القانونية بين الجمعية العامة ومجلس الأمن من جهة، وبين المجلس الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى. فالجمعية والمجلس فرعان رئيسيان وهيئتان من هيئات التمثيل الجماعي. وهمـا فرعان متساويان من حيث الطبيعـة، ومستقلان من حيث الوظيفـة والسلطة والاختصـاص، وليس لأحدهمـا سـلطان على الآخر.
والأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، إذ يعمل في ظل سلطان الجمعية العامة. نعم أن المادة 62 من الميثاق تقضي بأن للمجلس أن يقدم توصياته في أية مسألة من المسائل التي تدخل في دائرة اختصاصه إلى الجمعية العامة وإلى أعضاء الأمم المتحدة وإلى التوكيلات الأخصائية ذات الشأن، مما يدعو إلى الظن بأن المجلس الاقتصادي والاجتماعي له سلطة الانفراد في أداء الوظائف الموكولة إليه، إلا أن هذا الظن سرعان ما يتلاشى عند تلاوة نص المادة 60 من الميثاق، وهو الذي يقضي صراحة بأن مسئولية تحقيق التعاون الدولي الاقتصـادي والاجتماعي تقع “على عاتق الجمعية العامة، كما تقع على عاتق المجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل الجمعية العامة”.
فإذا أُضيف إلى ذلك أن المادة 66 من الميثـاق تقرر أن “يقوم المجلس الاقتصادي والاجتماعي في تنفيذ توصيات الجمعية العامة بالوظائف التي تدخل في اختصاصه”، وأن له بعد موافقة الجمعية العامة أن “يقوم بالخدمات متى طلب إليه ذلك أعضاء الأمم المتحدة أو التوكيلات الأخصائية”.. إلخ، ثبت أنه ليس لهذا المجلس خصائص الجمعية العامة أو خصائص مجلس الأمن، إذ هو فرع تابع للجمعية العامة يعمل تحت إشرافها وبوحيها وتوجيهها، وتوصياته جميعًا تخضع لرقابة الجمعية العامة توطئة لإقرارها أو رفضها.
فالمجلس – وإن كان قد رُفع إلى مرتبة الفروع الرئيسية لهيئة الأمم المتحدة – إلا أنه ظل محتفظًا بالطابع الذي طبعته به مقترحات دمبارتون أوكس من حيث تبعيته للجمعية العامة وخضوعه لإشرافها. وقد ذكرت المادة 13 من الميثاق أن من وظائف الجمعية العامة أن تنشئ دراسات وتشير بتوصيات بقصد إنماء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان… إلخ. وأضافت المادة بعد ذلك أن تبعات الجمعية العامة ووظائفها وسلطاتها الأخرى فيما يختص بهذه المسائل مبينة في الفصلين التاسع والعاشر من الميثـاق، وهما الفصـلان الخاصان بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، مما يدل دلالة قاطعة على أن التبعة الأولى في تحقيق مقاصد الهيئة في إنمـاء التعـاون الاقتصادي والاجتماعي إنما تقع أولا على الجمعية العامة، ثم على المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يعمل تحت سلطانها.
وقد مهدت أحكام الميثاق لإقامة المجلس الاقتصادي والاجتماعي بتخصيص الفصل التاسع من الميثاق لبيان الأحكام التي تنتظم التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي. وتصدرت أحكام هذا الفصل المادة 55، وهي دستور هذا التعاون، وتقضي بأنه: “رغبة في تهيئة شروط الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقات سلمية ودية بين الأمم، علاقات تقوم على احترام المبدأ الذي يقضي للشعوب بحقوق متساوية ويجعـل لها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على:
- تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد، والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
- تيسير الحلول للمشاكل الدولية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في شئون الثقافة والتعليم.
- أن ينتشر في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغـة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلا”.
والأحكام التي تضمنتها هذه المادة ظاهرة لا تحتاج إلى بيان. غير أن بعض وفود الدول في مؤتمر سان فرانسيسكو خشيت أن يكون في الألفاظ والعبارات التي وردت في هذه المادة ما يحمل هيئة الأمم المتحدة على التدخل في الشئون التي تُعد من صميم السلطان الداخلي لكل دولة، وهي التي تخرج بمقتضى الفقرة السابعة من المادة الثانية من الميثاق من دائرة اختصاص هيئة الأمم المتحدة. لذلك رأت اللجنة الفنية الثالثة المتفرعة من اللجنة الثانية من لجان مؤتمر سـان فرانسيسكو، أن تذكر في تقريرها أن الإجماع قد انعقد داخل اللجنة على أن أحكام المادة 55 من الميثاق وأحكام المواد الواردة في الفصلين التاسع والعاشر لا تخول هيئة الأمم المتحدة التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء (4).
ولم تكتفِ وفود الدول بهذا التصريح، فأوردت مباشرة بعد المادة 55 من الميثاق نصًـا يقضى بأن “يتعهد جميع الأعضاء بأن يتخذوا ما يجب عليهم من عمل مفرد أو مشترك بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصـد المنصوص عليها في المادة الخامسة والخمسين”، وذلك لإثبات الالتزام على الدول الأعضاء بأن تعمل منفردة في حدود سلطانها الداخلي على تحقيق المقاصـد التي عددتها المادة 55 من الميثاق، وبأن تعمل على تحقيق هذه المقاصد بالاشتراك مع سائر الدول الأعضاء في غير دائرة الاختصاص الداخلي، وبأن تتعاون مع هيئة الأمم المتحدة في سبيل تحقيق هذه المقاصد (5).
تشكيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي
وتقضي الفقرة الأولى من المادة الحادية والستين من الميثاق بأن يتألف المجلس الاقتصادي والاجتماعي من ثمانية عشر عضوًا من الأمم المتحدة تنتخبهم الجمعية العامة، وتقضي الفقرة الثانية من المادة عينها بأنه مع مراعاة أحكام الفقرة الثالثة ينتخب ستة من أعضاء المجلس كل سنة لمدة ثلاث سنوات، ويجوز أن يُعاد انتخاب العضو الذي انتهت مدته مباشرة. وتنص الفقرة الثالثة على أنه “في الانتخـاب الأول يختار للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ثمانية عشر عضوًا، وتنتهي عضوية ستة منهم بعد انقضاء سنة واحدة وتنتهي عضوية ستة آخرين بعد انقضاء سنتين، وذلك كله وفقًا للنظام الذي تضعه الجمعية العامة”.
ومما هو جدير بالذكر أن الفقرة الأولى من المادة 61 تحدد أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي بثمانية عشر عضوًا. وقد رأت وفود دول كثيرة في مؤتمر سان فرانسيسكو أن يكون عدد أعضاء هـذا المجلس أربعة وعشرين، وذلك حتى يتم تشكيل المجلس وفقًا لما رأته لجنة بروس Bruce Committee في التقرير الذي رفعته إلى الجمعية العامة للعصبة في 22 من أغسطس سنة 1939 في شأن إنماء التعـاون الدولي في الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وما اقترحته في هـذا التقرير من إنشاء “اللجنة المركزية للمسائل الاقتصادية والاجتماعية” على أن تُشكل هذه الهيئة من أربعة وعشرين عضوًا.
غير أن مؤتمر سان فرانسيسكو لم يوافق على هذا الرأي بحجة أن زيادة العدد تجعل المجلس بمثابة جمعية عامة صغرى مما يؤدي إلى العديد من المساوئ. ومن البديهي أن التحديد الوارد في الفقرة الأولى من المادة 61 من الميثاق يُعد تحديدًا جامدًا تحكميًا لا يحسب حسابًا للمظروف وتغيرها، ولا يعني باحتمال زيادة عدد أعضاء الأمم المتحدة في المقبل من الأيام.
وقد حدث في الدورة العادية الثانية التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف سنة 1947 أن تقدمت الأرجنتين باقتراح تعـديل المادة 61 من الميثاق على نحو يزيد عدد أعضاء المجلس الاقتصـادي والاجتماعي إلى أربعة وعشرين عضوًا، وأيدتها في هذا الاقتراح بوليفيا وكولومبيا ودومنيكا وبيرو ومصر، وكان من بين الحجج التي تقدمت بها الدول المؤيدة للاقتراح أن المسائل الاقتصادية والاجتماعية تهم جميع الدول، وأنه لما كان السلم الاقتصادي شرطًا أساسيًا للسلم السياسي فإن من المرغوب فيه زيادة تمثيل الدول في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، للعمل على إقامة التعاون بين الدول على أوسع نطاق، ولا سيما أن عدد أعضاء الأمم المتحدة في ازدياد، وأن التوسع في التمثيل يتيح لكل أعضاء هيئة الأمم المتحدة الفرصة في أن يمثلوا في المجلس بالتناوب في فترة معقولة، وأن ينشأ عن ذلك اتصال مستمر بين ممثلي الحكومات يساعد على تحقيق أهداف هيئة الأمم المتحدة كما يكسبهم خبرة في المسائل الاقتصادية.
وقد اعترض على اقتراح الأرجنتين كل من بلجيكا والاتحاد السوفييتي والصين. وذهب مندوب بلجيكا إلى أن أعمال المجلس الاقتصادي لا تتم على وجه أفضل بمجرد زيادة أعضاء المجلس إلى أربعة وعشرين عضوًا، بل بالعمل على زيادة سلطات المجلس، وإلى أن أي تعديل في ميثاق الأمم المتحدة في الوقت الحالي قد يكون سابقًا لأوانه، غير مرغوب فيه، ذلك أن هيئة الأمم المتحدة لما تبلغ أشدها ولما تزل في حاجة إلى التجارب. وأضاف مندوب الاتحاد السوفييتي أن زيادة عدد الأعضـاء تؤدي إلى البطء والتعقيـد في الإجراءات، وأنه إذا انعقد الرأي على الزيادة في عدد أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي فلا مفر أيضًا من زيادة عدد أعضاء مجلس الأمن ومجلس الوصاية، ورأى أن المجلس بتكوينه الحالي يحقق تمثيلا عادلا من الوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (6).
وأمام هذه العقبات سحبت الأرجنتين اقتراحها، واتُفق على ألا تتخذ الجمعية العامة أي قرار بشأنه.
ويلاحظ أن نص المادة 61 من الميثاق قد خلا من وضع أي ضابط موضوعي يحكم عملية انتخاب أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي بواسطة الجمعية العامة، وذلك على خلاف ما قضت به المـادة 23 الخاصة بتشكيل مجلس الأمن والمادة 86 المتعلقة بتشكيل مجلس الوصاية. فلا هو أوجب مراعاة التوزيع الجغرافي العادل في عملية انتخاب الأعضاء، ولا هو خصص مراكز دائمة للدول العظمى ذات المراكز الدائمة في مجلس الأمن ومجلس الوصاية.
وقد كان من بين الاقتراحات التي قُدمت في مؤتمر سان فرانسيسکو اقتراح تقدمت به مصر بمنح الدول العظمى مقاعد دائمة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي (7)، واقتراح تقدمت به كل من فرنسا وكندا بتخصيص مقاعد دائمة للدول العظيمة الشأن من الوجهة الاقتصادية. غير أن الآراء انقسمت بشأن المقياس الذي يُقاس به شـأن الدول من الوجهـة الاقتصادية، وهل يكون المساحة، أو الدخل الأهلي، أو الثروة، أو عدد السكان، أو الميزانية، أو التجارة الخارجية، أو هذه العوامل جميعًا. كما اعترضت بعض الدول بأن كثيرًا من الدول الصغرى تستطيع أن تعاون في حل المشكلات المعروضة على المجلس معاونة تتجاوز مراتبها في درج الدول.
هذا إلى أن الاعتبارات الاجتماعية والثقافية ليست أقل خطرًا من الاعتبـارات الاقتصادية. ورأت اللجنة الفنية الثالثة المتفرعة على اللجنة الثانية من لجان المؤتمر أن يُترك الموضوع لتقدير الجمعية العامة عند الانتخاب، وإن يكن هناك ما يشبه الإجماع أو الموافقة الضمنية على أن نجـاح المجلس مرهون بتمثيل الدول العظمى فيه بصفة دائمة (8)، ومن ثمة تعين النص على جواز إعادة انتخاب الأعضاء الذين يخرجون عند إجراء القرعة مباشرة (9). كذلك أضافت اللجنة حكمًا يقضي بأن المجلس الاقتصادي والاجتماعي يدعو أي عضو من الأمم المتحدة للاشتراك في مداولاته عند بحث أية مسألة تعني على وجه الخصوص هذا العضو على ألا يكون له حق التصويت (10).
وقد كان الاقتراح الذي تقدمت به الأرجنتين في الدورة الثانية للجمعية العامة يتضمن – إلى جانب زيادة عدد أعضاء المجلس – إضافة فقرة جديدة إلى المادة 61 من الميثاق تقضي بأنه يجب عند إجراء عملية الانتخاب مراعاة مدى مساهمة أعضاء الأمم المتحدة في المحافظة على استقرار الاقتصاد الدولي وكفايته، ومقدرة هؤلاء الأعضاء على حل مشكلات العالم الاقتصادية والاجتماعية.
وقد تقدم مندوب الهند باقتراح تعديل على مشروع الأرجنتين، وهو يقضي بأن تُوزع مقاعد المجلس الاقتصادي والاجتماعي على النحو التالي: ثلاثة مقاعد لدول أوربا الغربية، واثنان لدول أوربا الشرقية، وسبعة للقارتين الأمريكيتين، وثلاثة للشرق الأوسط وأفريقيا، واثنان لآسيا، ومقعد واحد لأستراليا والشرق الأقصى.
غير أن الأرجنتين سحبت اقتراحهـا كما سبق القول. أما المشروع الهندي فقد استُبعد لأنه يُعد موضوعًا جديدًا لا تعديلا بالمعنى المتعارف عليه، ومن ثم لا يجوز النظر فيه إلا إذا قررت الجمعية العامة إدراجه بجدول أعمالها. (11)
هذا وأن التقليد يجري على أن تمثل الدول العظمى ذوات المراكز الدائمة بمجلس الأمن في المجلس الاقتصادي والاجتماعي على سبيل الاستمرار، وعلى أن يخصص لدول أمريكا اللاتينية أربعة مراكز فيه. ومركزان لدول أوربا الغربية، وثلاثة مراكز لدول أوربا الشرقية، ومركزان للشرق الأوسط، ومركزان لأعضـاء الكومنولث البريطاني. غير أنه تجب الإشارة إلى أن هذا التقليد لا يُلزم الجمعية العامة بشيء. فلها أن تعدل عنه أو أن تستبدل غيره به، وليس من سبيل إلى إبطال عملية الانتخاب ما دامت تتم سليمة من الناحية القانونية في حدود الأغلبية التي اشترطها نص المادة 18 من الميثاق، وهي أغلبية ثلثي الأعضاء الحاضرين المشتركين في التصويت.
هذا وقد أصدرت الجمعية العامة في 17 من ديسمبر 1963 قرارًا بإدخال تعديل جزئي على أحكام المادة 61 من الميثاق للتفادي من بعض العيوب التي لوحظت على هذا النص فيما يتعلق بتشكيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي وفيما يتعلق بالمعيار الذي يجب أن يختار على أساسه أعضـاء المجلس المذكور. ويقضى هذا القرار بما يلي:
- يُشكل المجلس الاقتصادي والاجتماعي من 27 عضوًا بدلا من 18 عضوًا.
- يُنتخب تسعة من أعضاء المجلس كل سنة لمدة ثلاث سنوات.
- يُنتخب الأعضاء التسعة الإضافيون على أساس المعيار التالي: سبعة أعضاء من دول أفريقيا وآسيا، عضو من دول أمريكا اللاتينية، عضو من أوربا الغربية والدول الأخرى، وذلك كله من غير المساس بالتوزيع الحالي لمراكز العضوية في المجلس.
وقد ذكر القرار أن تقوم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالتصـديق على قرار التعديل الجزئي – وفقًا لأحكام المادة 108 من الميثاق – في موعد لا يتجاوز أول سبتمبر 1965.
وظائف المجلس الاقتصادي والاجتماعي وسلطاته
لما كانت تبعة تحقيق مقاصد هيئة الأمم المتحدة في ميدان التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي تقع بمقتضى المادة 60 من الميثاق على عاتق الجمعية العامة، كما تقع على عاتق المجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطان الجمعية العامة، فقد ذكر الميثاق وظائف المجلس وسلطاته في الفصل العاشر منه الذي تنتظم أحكامه تأليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي ووظائفه وسلطاته، كما ذكر في الفصل التاسع منه المتعلق بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي بعض السلطات التي خولتها أحكام الميثاق للجمعية العامة وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطان الجمعية العامة. ووردت بعض الأحكام الأخرى الخاصة بوظائف المجلس وسلطاته في مواضع أخرى من الميثاق.
ويلاحظ أن بعض هذه الأحكام قد خولت المجلس الاقتصادي والاجتماعي وظائف وسلطات مباشرة، كما هي الحال في المواد 62، 63، 64، 65، من الميثاق، في حين أن بعض الأحكام الأخرى قد خولت “الهيئة” وظائف وسلطات معينة من غير أن تبين الفرع المقصود الذي يستطيع – نيابة عن الهيئة – القيام بمزاولة هذه الوظائف أو بمباشرة هذه السلطات، كما هي الحال في المواد 57، 58، 59 من الميثاق. غير أنه يمكن القول بأن هذا النوع الأخير من الوظائف والسلطات ثابت للجمعية العـامة التي تحتفظ في هـذا الشأن بالاختصاص الكامل في التداول والنقـاش والتوصية، ثم للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يُعد الأداة التنفيذية التي تستعين بها الجمعية العامة في تحقيق مقاصد هيئة الأمم المتحدة المبينة في الفصل التاسع من الميثاق.
لذلك يتعين علينا أن نبين أولا الوظائف والسلطات التي خولها الميثاق مباشرة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ثم الوظائف والسلطات التي يمارسها هذا المجلس بوصفه الأداة التنفيذية التابعة للجمعية العامة.
الوظائف والسلطات المباشرة
أولا: الفقرة الأولى من المادة 62
تقضى الفقرة الأولى من المادة 62 من الميثـاق بأن “للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يقوم بدراسـات ويضع تقارير عن المسائل الدولية في شئون الاقتصـاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بها، كما أن له أن يوجه إلى مثل تلك الدراسات وإلى وضع مثل تلك التقارير، وله أن يقدم توصياته في أية مسألة من المسائل المتقدمة إلى الجمعية العامة وإلى أعضاء الأمم المتحدة وإلى التوكيلات الأخصائية ذات الشأن”.
والنص السالف يخول المجلس الاقتصادي والاجتماعي سلطات ثلاثًا: سلطة القيام بالدراسة ووضع التقارير، وسلطة التوجيه إلى مثل تلك الدراسة وإلى وضع مثل تلك التقارير، وسلطة تقديم التوصيات، إما إلى الجمعية العامة مباشرة، وإما إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحـدة، وإما إلى التوكيلات الإخصائية ذات الشأن، وذلك كله في ميادين الشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية وما يتصل بها.
ولا يستطيع المجلس أن يقـدم توصياته إلى مجلس الأمن أو إلى مجلس الوصاية، بل أن وظيفته تقتصر على معاونة مجلس الأمن ومده بالمعلومات إذا طلب مجلس الأمن منه ذلك تطبيقًا للمادة 65 من الميثاق، وعلى معاونة مجلس الوصاية في الحدود التي يرى فيهـا مجلس الوصاية الاستعانة به أو بالتوكيلات الإخصائية كلما كان ذلك مناسبًا، وذلك تطبيقًا للمادة 91 من الميثاق.
وقد كانت مقترحات دمبـارتون أوكس تقضى، في القسم الثالث من الفصل التاسع، بأن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي “سلطة تقديم التوجيهات من تلقاء نفسه في المسائل الدولية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الأخرى”. وقد أدخل مؤتمر سان فرانسيسكو على هذا النص تعديلات واسعة. فقد رُئي أنه لكي يتمكن المجلس من تقديم توصياته يجب أن تخول له سلطة الدرس ووضع التقارير وسلطة التوجيه، ولذلك أُضيفت إلى النص العبارة التي تصدرت الفقرة الأولى من المادة 62 من الميثاق.
كما رأت وفود الدول المجتمعة في سان فرانسيسكو أنه من المستحسن توسيع دائرة الشئون التي يختص المجلس بدرسها ووضع التقارير في شأنها، وذلك قطعًا لكل شك في هذا الأمر. فأُضيفت إلى الشئون الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية شئون الثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بها من شئون أخرى. وبذلك حصر النص دائرة نشاط المجلس في نطاق واسع. ويكفي للتدليل على اتساع هذا النطاق أن نذكر أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد تناول بالدرس مسائل اللاجئين والأزمة العالمية في المساكن وتعمير الأماكن المهدمة والحالة السياسية للسيدات، وإبادة الأجناس.. إلى غيرها من المسائل. وأخيرًا رأى مؤتمر سان فرانسيسكو أن يقضي على اللبس الذي كان ينطوي عليه نص مقترحات دمبارتون أوكس في خصوص الجهة التي توجه إليها توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي، فذكر في نص الفقرة الأولى للمادة 62 أن للمجلس أن يقدم توصياته إلى الجمعية العامة وإلى أعضـاء الأمم المتحدة وإلى التوكيلات الأخصائية ذات الشأن.
ولما كانت سلطات المجلس الاقتصادي والاجتماعي تنحصر في القيام بالدراسات ووضع التقارير، والتوجيه إلى مثل تلك الدراسـات وإلى وضع مثل التقارير في دائرة النشاط التي رُسمت له، فإنه يبدو ظاهرًا أنه ليس للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أي اختصاص فيما يتعلق بالمنازعات الدولية، حتى ما كان منها ذا طابع اقتصادي أو اجتماعي. وقد حدث في سبتمبر سنة 1946 أن عُرض على المجلس الاقتصادي والاجتماعي نزاع كان يقوم بين تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا من جهة وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، في خصوص مطالبة الدولتين الأوليين الدولة الثانية برد المراكب التابعة لهما التي استولى عليها الجيش الألماني في الدانوب والتي أصبحت تحت يد الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يسع المجلس النظر في هذا النزاع وأصدر توصية بعقد مؤتمر في فيينا للنظر في إعادة الملاحة الدولية في الدانوب (12).
وحدث أيضًا في الدورة السادسة التي عقدها المجلس سنة 1948 أن عُرض على المجلس نزاع قام بين يوغوسلافيا والولايات المتحدة الأمريكية في خصوص مطالبة الدولة الأولى برد الذهب الذي أودعته لدى الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. فدفعت الولايات المتحدة بعدم اختصاص المجلس بالنظر في أي نزاع يقوم بين دولتين أو أكثر، إذ هو ليس بمحكمة تحكيم أو محكمة قضائية، وليس هو بأداة توفيق. وقد أحال المجلس المسألة على لجنته الاقتصادية، فقررت عدم اختصاص المجلس بالنظر في هذه المسألة، على أساس أنها نزاع بين دولتين، ولأن المسألة تنطوي على عوامل قانونية. ومن ثم قرر المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدم اختصاصه بالنظر في النزاع اليوغوسلافي الأمريكي (13).
ثانيًا: الفقرة الثانية من المادة 62
تقضى الفقرة الثانية من المادة 62 من الميثـاق بأن للمجلس “أن يقدم توصيات فيما يختص بنشر احترام حقوق الإنسـان والحريات الأساسية ومراعاتها”. ويلاحظ على هذا النص أنه اقتصر على تخويل المجلس سلطة تقديم التوصية فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسـان والحريات الأساسية ومراعاتها”. ولم يذكر أن للمجلس أية سلطة في القيـام بدراسات أو وضع تقارير في هذا الشأن أو بالتوجيه إليها. غير أن الفرق في الصياغة ما بين الفقرة الأولي والفقرة الثانية من المادة 62 من الميثاق لا يعني قط وجود فرق في سلطات المجلس الاقتصادي والاجتماعي فيما يتعلق بدائرة المسائل المذكورة في الفقرة الأولى ودائرة المسائل التي تضمنتها الفقرة الثانية من المادة 62، ذلك لأن تقديم التوصية يتطلب، بادئ ذي بدء، القيـام بدراسة المسائل التي سوف تقدم التوصية في شأنها، وهـذا ما يقضي به المنطق وطبيعة الأشياء.
ومن جهة أخرى لم يرد في وثائق مؤتمر سـان فرانسيسكو ما يؤيد وجود فرق في السلطات التي يمارسها المجلس بمقتضى الفقرة الأولى والسلطات التي يمارسها وفقًا للفقرة الثانية. يضاف إلى ذلك أن التقليد قد جرى في المجلس الاقتصادي والاجتماعي على أن يبـاشر المجلس، فيما يتعلق بالمسائل التي ورد ذكرها في الفقرة الثانية من المادة 62، سلطة القيام بالدراسات ووضع التقارير والتوجيه إلى ذلك.
فقـد عهد المجلس إلى إحدى لجانه – وهي لجنة حقوق الإنسان – بمهمـة وضع الاقتراحات وتقديم التوصيات ورفع التقارير فيما يتعلق بحقوق الإنسان والتصريحات والاتفاقات الدولية الخاصة بالحريات المدنية، وفيما يتصـل بمركز النساء وفيما يتعلق بتحقيق حرية الأنباء والإعلام، وحماية الأقليات، والقضاء على التمييز والتفريق بسبب الجنس أو اللغـة أو الدين (14). وقد درست اللجنة بعض هذه المسائل ورفعت تقارير عنها إلى المجلس، كما هي الحال فيما يتعلق بإعداد مشروع اتفاق دولي في شأن حقوق الإنسان (15)، ورفعت لجنة حرية الأنباء والإعلام تقريرًا إلى المجلس فيما يتعلق بوجوب العمل على عقد مؤتمر دولي لإعداد معاهدات دولية تكفل حرية الأنباء (16). وكذلك عهد المجلس إلى لجنة خاصة بمهمة وضع تقرير عن مشروع اتفـاق دولي يحظر إبادة الأجنـاس (17).. إلخ. وهـذا كله يقطع بأن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يباشر – فيما يتعلق بما ورد في الفقرة الثانية من المادة 62 – السلطات عينها التي له حق مباشرتها بمقتضى الفقرة الأولى هذه المادة.
ويلاحظ أنه ليس للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أية سلطة في اتخاذ أي عمل ما Action في خصوص احترام حقوق الإنسان أو في أي نزاع دولي في هذا الشأن أو في أية شكوى تُقدم إليه عن انتهاك هذه الحقوق، إذ الأمر مرجعه في هذه الحالة إلى الفروع الأخرى ذات الاختصاص في النظر وفي تسوية المنازعات الدولية وهي الجمعية العامة ومجلس الأمن، في حدود الوظائف التي رسمها لهما ميثاق الأمم المتحدة (18).
ثالثًا: الفقرة الثالثة من المادة 62
وتنص الفقرة الثالثة من المادة 62 من الميثاق على أن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي “أن يُعد مشروعات اتفاقات لتُعرض على الجمعية العامة عن مسائل تدخل في دائرة اختصاصه”. وهذا النص يخول للمجلس الاقتصادي والاجتماعي سلطة جديدة لم يرد لها ذكر في مقترحات دمبارتون أوكس، وهي سلطة إعداد مشروعات اتفاقات دولية في شـأن المسائل التي تدخل في دائرة اختصاصه. وللمجلس بمقتضى هـذا النص الجديد السلطة التقديرية المطلقة في إعداد مشروعات الاتفاقات الدولية أو في الامتناع عن إعدادها. فإذا تراءى له أن يباشر هذه السلطة فله حرية اختيار موضوع الاتفاق الدولي الذي يقوم بإعداده بشرط أن يكون هذا الموضوع في حدود المسائل التي تدخل في دائرة اختصاص المجلس.
غير أنه لا يجوز للمجلس أن يعرض مشروع الاتفاق الدولي الذي يقوم بإعداده على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مباشرة، بل عليه أن يعرضه على الجمعية العامة دون سائر الفروع الأخرى للهيئة. وللجمعية العامة وحدها اختصاص النظر في هذه المشروعات وفى إدخال ما تراه من التعديلات عليها وفي تقديم التوصيات في شأنها إلى الدول الأعضاء أو إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو إلى أي فرع آخر من فروع الأمم المتحدة.
وقد مارس المجلس السلطة المخولة له بمقتضى هذا النص على نطاق واسع. ومما يذكر أنه قام بإعداد مشروع تصريح دولي فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ومشروع اتفاقات دولية موضوعها حرية الأنباء والإعلام، ومشروع اتفاق دولي لتنظيم مسائل اللاجئين، ومشروع اتفاق دولي يعدل اتفاقات المخدرات، ومشروع اتفاق دولي يمنع الإتجار في الرقيق.. إلخ.
رابعًا: الفقرة الرابعة من المادة 62
وتنص الفقرة الرابعة من المادة 62 على أن للمجلس “أن يدعو إلى عقد مؤتمرات دولية لدراسة المسائل التي تدخل في دائرة اختصاصه، وذلك وفقًا للقواعد التي تضعها الأمم المتحدة”. وهذا النص يخول المجلس الاقتصادي والاجتماعي سلطة لم تكن تخولها له مقترحات دمبارتون أوكس. وقد قررت اللجنة الفنية الثالثة المتفرعة على اللجنة الثانية من لجان مؤتمر سان فرانسيسكو إدراج هذا النص بناءً على اقتراح كانت أستراليا قد تقدمت به، ويرمي إلى تخويل المجلس سلطة الدعوة إلى عقـد مؤتمرات دولية في حالة الضرورة الملحة بقصد النظر وتقديم التوصية في شأن الأعمال الواجب اتخاذها للمحافظة ولإنماء التعاون الدولي في شئون الاقتصاد والاجتماع تحقيقًا لمقاصد الأمم المتحدة (19).
وقد انعقد الرأي في اللجنة الفنية المختصة على تخويل المجلس هذه السلطة مع رفع القيد الوارد في الاقتراح الأسترالي، وهو قيد حالة الضرورة الملحة والعمل على توسيع نطاق دائرة الشئون التي يكون للمجلس دعوة المؤتمرات لبحثها بحيث تشمل هذه الدائرة جميع المسائل التي تدخل في اختصاص المجلس الاقتصـادي والاجتماعي. كما قد قيد النص سلطة المجلس في هذا الخصوص بوجوب مراعاة القواعد التي قد تضعها الجمعية العامة لمباشرته لهـذه السلطة. وقد قررت الجمعية العامة في القسم الأول من دورة انعقادها الأولى أن للمجلس أن يدعو إلى عقد مثل هذه المؤتمرات بعد المشاورة مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقًا لروح المادة 62 في أية مسألة تدخل في دائرة اختصاصه، ومنها المسائل المتعلقة بالتجارة الدولية والعمل وبموازنة الأسعار في السوق العالمية وبمسائل الصحة (20).
ومما هو جدير بالذكر أن للمجلس أن يباشر هذه السلطة من تلقاء نفسه. كما له أن يباشرها بناء على توجيه الجمعية العامة. فقد دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي من تلقاء نفسه إلى عقد مؤتمر الصحة العالمية بمدينة نيويورك في الفترة ما بين 19 من يونيو و22 من يوليو سنة 1946، والمؤتمر الدولي للإحصاء في واشنطن سنة 1947، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والعمل الذي انعقد في هافانا سنة 1947، ومؤتمر الأمم المتحـدة لشئون الملاحة الذي انعقد بجنيف في فبراير سنة 1948.. إلخ.
ومن المؤتمرات التي دعا إليها المجلس الاقتصادي والاجتماعي وفقًا للتعليمات التي صدرت إليه من الجمعية العامة مؤتمر حرية الأنباء الذي انعقد بجنيف ابتداء من 23 مارس سنة 1948.
وغنى عن البيان أن على المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يراعي القيد الوارد بالفقرة السابعة من المادة الثانية من الميثاق، فلا يدعو إلى عقد مؤتمر في شئون تدخل في صميم السلطان الداخلي لكل دولة. وعليه أيضًا ألا يدعو إلى عقد مؤتمرات تمثل فيها هيئات غير حكومية.
وقد حدث في القسم الثاني من الدورة الأولى للجمعية العامة أن اقترح مندوب الفلبين أن يدعو المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى عقـد مؤتمر لشعوب الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، فعارضت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا هذا الاقتراح، واستندت في ذلك إلى أن المادة 62 تخول المجلس الاقتصادي والاجتماعي سلطة دعوة المؤتمرات التي تمثل فيها الدول فحسب، وإلى أن دعوة شعوب الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي إلى مؤتمر عن غير طريق وواسطة الدول التي تشرف على إدارتها يخالف حكم الفقرة السابعة من المادة الثانية من الميثاق مخالفة ظاهرة، وإلى أن سلطة المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دعوة المؤتمرات مقيدة بدائرة المسائل التي تدخل في اختصاصه فحسب، فهي بطبيعتها لا تشمل المسائل التي ورد ذكرها في الفصل الحادي عشر من الميثاق إذ هي تخرج عن هذه الدائرة. وقد تأيدت وجهة النظر هـذه في القرار الذي أصدرته الجمعية العامة في موضوع الاقتراح الفليبيني.
خامسًا: الفقرة الأولى من المادة 63
وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي وظيفة أخرى ورد ذكرها في الفقرة الأولى من المادة 63 من الميثاق، وهي التي تقضي بما يلي: “للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يضع اتفاقات مع أي توكيل من التوكيلات المشار إليها في المادة 57 تحدد الشروط التي يوصل على مقتضاها بينها وبين الأمم المتحدة وتعرض هذه الاتفاقات على الجمعية العامة للموافقة عليها”.
فالمجلس – بمقتضى هـذا النص – هو الأداة التي تنوب عن هيئة الأمم المتحدة في التفاوض مع التوكيلات الأخصائية والوصول معها إلى وضع الاتفاقات التي تحدد الشروط التي يوصل على مقتضاها بينهـا وبين الأمم المتحدة وفقًا لأحكام المادة 57 التي سوف يأتي الكلام عنها. وما يصل إليه المجلس في هذا الصدد يجب كي يدخل في دور التنفيذ أن يُعرض على الجمعية العامة وأن توافق الجمعية عليه فعلا.
ويجرى العمل فيمـا يتعلق بإبرام هـذه الاتفاقات أن تقوم لجنة المفاوضات – وهي اللجنة التي أنشأها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في 16 من فبراير سنة 1946 – بالتفاوض مع لجنـة تقوم بتمثيـل الوكالة المتخصصة ذات الشأن، توطئة لإعداد مشروع الاتفاق المزمع عقده وفقًا للشروط والتعليمات التي يكون المجلس قد زود بها لجنة المفاوضات. ثم يُعرض المشروع على المجلس الاقتصادي والاجتماعي للموافقة عليه، فإن تم ذلك يُعرض أمره على الجمعية العامة. فإن هي وافقت عليه بدورها فإن الأمين العام لهيئة الأمم المتحـدة يتولى التوقيع على البروتوكول الذي يدخله في دائرة التنفيذ، ويشاركه في التوقيع ممثل الوكالة المتخصصة بها ثم يسجل الاتفاق في سجلات الأمم المتحدة طبقـًا للفقرة الأولى من المادة 102 من الميثاق.
سادسًا: المادة 64
وأخيرًا فإن المادة الرابعة والستين من الميثاق تنص على أن:
- “للمجلس الاقتصادي والاجتمـاعي أن يتخـذ الخطوات المناسبة للحصول بانتظام على تقارير من التوكيلات الأخصائية، وله أن يجرى ترتيبات مع أعضاء الأمم المتحدة ومع التوكيلات الأخصائية لكي تمده بتقارير عن الخطوات التي اتخذتها لتنفيذ توصياته ولتنفيذ توصيات الجمعية العامة في شأن مسائل تدخل في اختصاص المجلس..
- “وله أن يُبلغ الجمعية العامة ملاحظاته على هذه التقارير”.
وهذا النص يخول المجلس الاقتصادي والاجتماعي سلطة اتخاذ الخطوات المناسبة للحصول على تقارير من التوكيلات الأخصائية. ولما كان المجلس لا يملك حق إجبار التوكيلات الأخصائية على رفع تقاريرها إليه، فإن المجلس لا يسعه مباشرة هذه السلطة إلا إذا تضمنت الاتفاقات التي تعقد مع التوكيلات الأخصائية نصوصًا تُلزم هذه التوكيلات برفع تقاريرها إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
وبالفعـل تبينت اللجنة التحضيرية التي انعقدت في أثر انفضاض مؤتمر سان فرانسيسكو هـذا الوضع، فذكرت في الملاحظات التي أبدتهـا على العلاقات التي يجب أن تقوم بين التوكيلات الأخصائية وهيئة الأمم المتحدة أن إعمال هذا النص يتطلب إثبات التزام على عائق التوكيلات الأخصائية برفع تقريرها إلى المجلس وإلى الجمعية العامة، وأن إثبات هـذا الالتزام يجب أن يكون في الاتفاقات التي يوصل على مقتضاها بين التوكيلات المتخصصة وبين الأمم المتحدة. وأضافت اللجنة في ملاحظاتها أن طبيعة هذه التقارير ومواعيد رفعها تُعد من المسائل التي تتناولها مثل هذه الاتفاقات.
ومن الأمور الظاهرة أن الفقرة الثانية من المادة 64، وهي التي تقضي بأن يبلغ المجلس الجمعية العامة ملاحظاته على هذه التقارير، إنما تقرر المبدأ المسلم به، وهو أن الجمعية العامة وحدها هي صاحبة السلطة في اتخاذ ما يتراءى لها اتخاذه في شأن هذه التقارير، وأن المجلس الاقتصـادي والاجتماعي هو الأداة الفنية التي تعاون الجمعية العامة في ميدان التعـاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي والتي تعمل في ظل الجمعية العامة.
وظائف المجلس بوصفه الأداة التنفيذية التابعة للجمعية العامة
سبق أن ذكرنا أن مسئولية إنماء التعاون الدولي في شئون الاقتصاد والاجتماع تقع أولا على عاتق الجمعية العامة ثم على عاتق المجلس الاقتصادي والاجتماعي بوصفه الأداة الفنية التنفيذية التي تعمل في ظل سلطان الجمعية العامة، وأن هـذا الوضع قد اقتضى تبعيض الأحكام المتعلقة بوظائف وسلطات الهيئة في هذا الميدان، فذُكر بعضها في الفصـل التاسع من الميثاق، وذُكر البعض الآخر في الفصل العاشر منه. فأما الأحكام الأولى فقد تضمنت الوظائف والسلطات التي خُولت “للهيئة” مباشرة، أي للجمعية العامة وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطانها. وأما النوع الثاني من الأحكام فقد تضمن الوظائف والسلطات التي خُولت مباشرة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والتي سبق عنها البيان.
والأحكام التي تضمنت الوظائف والسلطات المخولة للجمعية العامة وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطان الجمعيـة العامة، هي المواد 57 و58 و59 من الميثاق، وهي متعلقة كلها بالتوكيلات الأخصائية وبوجوب الوصل بينها وبين هيئة الأمم المتحدة، وتحقيق التناسق بين سياسات هذه التوكيلات، وبالدعوة إلى إجراء مفاوضات بين الدول ذات الشأن بقصد إنشاء الجديد من التوكيلات المتخصصة.
والتوكيلات المتخصصة هـذه هيئات تنظيمية أُنشئت بمقتضى اتفاقات دولية بقصد تحقيق الإشراف المتواصل على تنظيم موضوع معين على سبيل التخصص الفني فيه. ويُشترط لإطلاق هذا الاصطلاح على هيئة تنظيمية دولية معينة أن تضطلع هذه الهيئة بمقتضى نظمها الأساسية بتبعات دولية واسعة في شئون الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة أو التعليم أو الصحة أو ما يتصل بهذه الشئون، كما يُشترط أن يوصل بينها وبين هيئة الأمم المتحدة بمقتضى اتفاق يتم بينهما يحدد طبيعة هذه الصلة، وشروط قيامها وتبعة كل من الهيئتين إزاء الأخرى. أما غير ذلك من الهيئات التي لا يتوافر فيهـا هذان الشرطان فلا تُعد في نظر ميثاق الأمم المتحدة من التوكيلات الأخصائية، وذلك وفقًا للمعنى المُستفاد من المادة 57.
وتنحصر وظائف وسلطات الجمعيـة العـامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطان الجمعية العامة في ثلاثة أمور: إيجاد الصلة بين التوكيلات المتخصصة وبين هيئة الأمم المتحدة، وتنسيق سياسات التوكيلات المتخصصة، ودعوة الدول ذات الشأن إلى التفاوض في شأن إنشاء الجديد من هذه التوكيلات.
وسنتكلم عن كل أمر منها فيما يلي:
الوصل بين التوكيلات المتخصصة وبين هيئة الأمم المتحدة
تقضى المادة 57 من الميثاق بما يلي:
- “(1) إن التوكيلات المختلفة التي تنشأ بمقتضى اتفاق بين الحكومات، والتي تضطلع بمقتضى نظمها الأساسية بتبعات دولية واسعة في الاقتصـاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بذلك من الشئون يوصل بينها وبين الأمم المتحدة وفقًا للمادة 63.
- (2) وتسمى هذه التوكيلات التي يوصل بينها وبين الأمم المتحدة فيما يلي من الأحكام بالتوكيلات الأخصائية”.
وظاهر أن هذا النص لا يتضمن أحكامًا عن طبيعة الاتفاقات التي تعقد للوصل بين التوكيلات المتخصصة وبين الهيئـة، وما كان له أن يضع تلك الأحكام وهي تتفاوت بتفاوت الأحوال. غير أنه يمكن القول أن هـذه الاتفاقات يجب أن تنص على حق هيئة الأمم في تنسيق سياسة هذه التوكيلات، وحقها في أن تُرفع إليها تقارير دورية عن وجوه نشاطها، وحقها في أن تصدر توصياتها إلى التوكيلات الأخصائية المختلفة، وحقها في دراسة الميزانيات الإدارية لتلك التوكيلات لكي تقدم لها توصياتها في شأنها. كما يجب أن يُترك للتوكيلات بمقتضى هـذه الاتفاقات أكبر نصيب من حرية العمل، على أن يتواءم عملهـا ويتسق مع أعمال الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والتوكيلات الأخرى التي يوصل بينها وبين تلك الفروع.
والتوكيلات المتخصصة التي تم الوصل بينها وبين الأمم المتحدة وفقًا لنص المادة 57 هي التالية: الهيئة الدولية للعمل، هيئة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، هيئة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، الهيئة الدولية للطيران المدني، البنك الدولي للإنشاء والتعمير، البنك الدولي لشئون النقد، الاتحاد الدولي للبريد، الهيئة الدولية للصحة، الهيئة الدولية للاجئين، الاتحاد الدولي للمواصلات اللاسلكية، الهيئة الدولية الاستشارية للملاحة، الهيئة الدولية للتجارة، الهيئة العالمية للأرصاد الجوية.
تنسيق سياسات التوكيلات الأخصائية ووجوه نشاطها
وتقضى المادة 58 من الميثـاق بأن “تقدم الهيئـة توصيات بقصد تنسيق سياسات التوكيلات الأخصائية ووجوه نشاطها”. وهـذا النص من النصوص التي تلقي على الجمعية العامة وعلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطان الجمعية العامة مهمة خطيرة هي تنسيق سياسات مختلف التوكيلات المتخصصة ووجوه نشاطها. وغني عن البيان أن ازدياد عدد التوكيلات المتخصصة واتساع ميادين نشاطها يتطلب العناية الفائقة بتنسيق سياساتها، وذلك لأن فقدان هذا التناسق قد يؤدي إلى التنازع الإيجابي بين هذه التوكيلات أو بين بعضها في معالجة وتنظيم الموضوع الواحد وازدواج الجهود في شأنه، وقد يؤدى أيضًـا إلى الامتناع عن معالجته وتنظيمه بوساطة هذه التوكيلات أو بعضها لتخلي كل منها عن بحثه لاعتقادها أنه يدخل في دائرة اختصـاص غيرها من التوكيلات القائمة.
والتنسيق بين مختلف التوكيلات يقضي على احتمال قيام التنافس بينها في شأن الحصول على الموارد وعلى الموظفين، وهو يقضي أيضًا على العواقب الوخيمة التي تترتب على وضع السياسات المتعارضـة وعلى تنفيذ هـذه السياسات. وقد أشارت اللجنة التحضيرية التي اجتمعت عقب مؤتمر سان فرانسيسكو إلى ذلك في تقريرها، ورأت أن تنسيق سياسات التوكيلات الأخصائية ووجوه نشاطها يُعد ضرورة للوصول إلى تحقيق الأغراض التي ذكرتها أحكام الميثـاق في ميدان التعاون الدولي في شئون الاقتصـاد والاجتماع.
وظاهر أن نص المادة 58 يلقي تبعة القيام بتنسيق سياسة التوكيلات المتخصصة ووجوه نشاطها على عاتق الهيئة، أي على عاتق الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في الحدود التي رسمتها المادة الستون من الميثاق. ويمكن القول بأن الجمعية العامة تباشر وظائفها بهـذا الصدد بطريقة عملية، هي إصـدار التوصيات العامة، ووضع الأسس التوجيهية للسياسات التي يتبعها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والتوكيلات المتخصصة المختلفة. والسلطات التي تستمتع بها في هذا الشأن سلطات واسعة: فهي التي توافق على الاتفاقات التي يعقدها المجلس الاقتصـادي والاجتماعي مع التوكيلات المتخصصة وفقًا للفقرة الأولى من المادة 63 من الميثاق. والجمعية عندما تباشر هـذه السلطة تحرص على أن تقوم هـذه الاتفاقات على أسس منسقة وأن تتضمن مبادئ متوائمة. وللجمعية العامة أيضًا أن تعمل على تنسيق وجوه نشاط التوكيلات المتخصصة عندما يبلغ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ملاحظاته إليها في شأن التقارير التي ترفعها إليه التوكيلات المتخصصة، وذلك وفقا للفقرة الأخيرة من الميثاق.
وفضلا عن ذلك فإن الجمعية العامة هي الفرع الرئيسي المكلف بمقتضى الفقرة (ب) من المادة 13 من الميثاق بإصدار التوصيات فيما يتعلق بإنهاء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان. أخيرًا فإن للجمعية العـامة بمقتضى الفقرة الثالثة من المادة 17 سلطة النظر في أية ترتيبات مالية أو متعلقة بالميزانية مع التوكيلات الأخصائية، وسلطة التصديق عليها، وسلطة درس الميزانيات الإدارية لتلك التوكيلات. ولا شك أن مباشرة هـذه السلطات تتيح للجمعية العامة فرصة ثمينة للإشراف على تنسيق سياسات التوكيلات الأخصائية ووجوه نشاطها المختلفة.
أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي فهو الأداة التي تشرف بطريقة مباشرة على تنفيذ توجيهات الجمعية العامة، وذلك وفقا لأحكام المادة 66 من الميثاق. وهو يمارس سلطانه عن طريق التفاوض مع التوكيلات الأخصائية في وضع الاتفاقات التي توصل بين هذه التوكيلات وبين هيئة الأمم المتحـدة، وتضمين هذه الاتفاقات الأحكام التي تؤدي إلى تناسق سياسات هذه التوكيلات والتي تخول المجلس الاقتصادي والاجتماعي حق الإشراف على هـذه التوكيلات. والمجلس هو صاحب السلطة في اتخاذ الخطوات المناسبة للحصول بانتظام على تقارير من التوكيلات الأخصائية عن نشاطها، وذلك بمقتضى الفقرة الأولى من المادة 64، وهو الذي يُبلغ ملاحظاته على هذه التقارير إلى الجمعية العامة.
الدعوة إلى إجراء مفاوضات بشأن إنشاء توكيلات أخصائية جديدة
وأخيرا فإن المادة 59 من الميثاق تخول الهيئة سلطة الدعوة عند المناسبة إلى إجراء مفاوضات بين الدول ذات الشأن بقصد إنشاء أي توكيل أخصائي جديد يتطلبه تحقيق المقاصـد المبينة في المادة 55 من الميثاق. وقد مارست الجمعية العامة هذه السلطة عندما أصدرت بتاريخ 12 من فبراير سنة 1946 توصية إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالعناية بمسألة اللاجئين والعمل على إجراء مفاوضات بقصـد إنشاء الهيئة الدولية للاجئين. أما المجلس الاقتصادي والاجتماعي فقد باشر السلطة المخولة له بمقتضى المادة 59 أكثر من مرة، منها القرار الذي أصدره في 15 فبراير سنة 1946 بإنشاء لجنة فنية تقوم بإعداد دستور هيئة الصحة العالمية، والقرار الذي أصدره في 18 من فبراير سنة 1946 بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لإنشاء هيئة التجارة الدولية، والقرار الذي أصدره في دورة انعقاده الرابعة بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي في فبراير سنة 1948 بقصد إنشاء الهيئة الدولية الاستشارية للملاحة البحرية. وقد سبق عن ذلك كله البيان.
نظام الإجراءات في المجلس الاقتصادي والاجتماعي
تقضي لائحة الإجراءات التي وضعها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بناء على السلطة التي خولتها له الفقرة الأولى من المادة 72 من الميثاق بأن يعقد المجلس في كل عام دورتين عاديتين على الأقل. وله أن يعقد دورة غير عادية إذا ما قرر ذلك، أو بناء على طلب أغلبية أعضائه أو بناء على طلب الجمعية العامة أو بناء على طلب مجلس الأمن، وله أيضًا أن يعقد دورة غير عادية إذا طلب ذلك مجلس الوصاية، أو عضو من أعضاء الأمم المتحدة، أو توكيل من التوكيلات الأخصائية ووافق على هذا الطلب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي ونائباه.
فإذا لم تتم موافقة رئيس المجلس ونائبيه في الأربعة الأيام التالية لتقديم الطلب فعلى الرئيس أن يخابر أعضاء المجلس في شأن هذا الطلب، فإذا وافقت أغلبية أعضاء المجلس عليه في خلال ثمانية أيام دعا الرئيس المجلس إلى عقد الدورة غير العادية في الموعد الذي يحدده، بشرط ألا يتجاوز هذا الموعد ثلاثين يومًا تُحتسب من موعد تقديم الطلب الخاص بعقد الدورة غير العادية. ولرئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي – بموافقة نائبيه – أن يدعو المجلس إلى الانعقاد في دورة غير عادية، في الموعد الذي يحدده لذلك.
ويجتمع المجلس في مقر هيئة الأمم المتحدة أو في أي مكان آخر يقرره المجلس أو توافق عليه أغلبية أعضاء المجلس.
وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يدعو أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة للاشتراك في مداولات المجلس عند بحث أية مسألة تعني هذا العضو بوجه خاص، على ألا يكون له حق التصويت. ولرئيس مجلس الوصاية أو ممثله أن يشترك في مداولات المجلس الاقتصـادي والاجتماعي عند بحث أية مسألة تعني مجلس الوصاية بوجه خاص، على ألا يكون له حق التصويت. وللمجلس أيضًا أن يُجرى ترتيبات بقصد اشتراك مندوبي التوكيلات الأخصائية في مداولاته دون أن يكون لهم حق التصويت واشتراكهم في مداولات اللجان التي ينشئها، وكذلك لاشتراك مندوبيه في مداولات التوكيلات الأخصائية. وله أخيرًا أن يُجرى الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية التي تعني بالمسائل التي تدخل في اختصاصه. وهذه الترتيبات قد يجريها المجلس مع هيئات دولية، كما أن المجلس قد يجريها مع هيئات أهلية إذا رأى ذلك ملائمًا، وبعد التشاور مع عضو الأمم المتحدة ذي الشأن، وذلك كله وفقًا للمواد 69 و70 و71 من الميثاق.
وتقضي المادة 67 من الميثـاق بأن يكون لكل عضو من أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي صوت واحد، وبأن تصدر قرارات المجلس بأغلبية أعضائه الحاضرين المشتركين في التصويت، وذلك على عكس القاعدة المتبعة في مجلس الأمن والقاعدة المتبعة في الجمعية العامة فيما يتعلق بالتصويت في المسائل الهامة.
وينتخب المجلس كل سنة رئيسًا ونائبًا أول للرئيس ونائبًا ثانيًا له، وتجوز إعادة انتخاب كل منهم بشرط استمرار عضوية الدولة التي ينتسبون إليها في المجلس.
ويتضمن جدول الأعمال المؤقت للمجلس الاقتصـادي والاجتماعي:
- المسائل التي اقترح إدراجها المجلس في دورة انعقاد سابق.
- المسائل التي يقترح إدراجها الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو مجلس الوصاية.
- المسائل التي يقترح إدراجها أعضـاء الأمم المتحـدة أو التوكيلات الأخصائية أو الهيئات غير الحكومية، وذلك بشرط أن يكون اقتراح إدراجها قد وصل إلى الأمين العام للأمم المتحدة في موعد لا يتجاوز 28 يومًا قبل انعقاد دورة المجلس (المادة 10 من اللائحة المعدلة بقرار المجلس الصادر في 12 من أغسطس سنة 1947).
وتقضي المادة 13 من اللائحة المعدلة بقرار المجلس الصادر في 28 من أغسطس سنة 1948 بأن ينشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجنة تسمى لجنة جدول الأعمال على أن تُشكل من رئيس المجلس ونائبين وعضوين آخرين يتم انتخابهما في كل دورة. ويكون اختصاص هذه اللجنة، وفقا للمادة 14 من اللائحة المعدلة بقرار المجلس الصادر في 12 من أغسطس سنة 1947، النظر في جدول الأعمال المؤقت بقصد تقديم توصيات إلى المجلس في أول اجتماع من كل دورة انعقاد في شـأن إدراج المسائل في جدول الأعمال أو تأجيل إدراجها فيه وفي شأن ترتيب المسائل الواردة في هـذا الجدول.
وتقضى المادة 68 من الميثاق بأن ينشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجانًا في الشئون الاقتصادية والاجتماعية ولتعزيز حقوق الإنسان، كما ينشئ غير ذلك من اللجان التي قد يحتاج إليها لتأدية وظائفه. وقد باشر المجلس الاقتصادي والاجتماعي السلطة المخولة له بمقتضى هـذا النص على نطاق واسع بقصد تحقيق غرضين جوهريين: الأول هو حسن أدائه لوظائفه، والثاني تمثيل أكبر عدد ممكن من أعضاء الأمم المتحدة في لجان المجلس لتأمين اشتراكها في أعماله.
ويمكن تقسيم اللجان التي أنشأها المجلس أربعة أقسام: فأما الأول فيشمل اللجان التي تشكل في بداية كل دورة من دورات الانعقاد وتنفض بانفضاض الدورة، ومثالها لجنة الشئون الاقتصادية ولجنة الشئون الاجتماعية ولجنة حقوق الإنسان. وأما الثاني فيشمل اللجان ذات الاختصاص الإجرائي، ومثالها لجنة جدول الأعمال ولجنة التفاوض مع التوكيلات الأخصائية.. إلخ. والقسم الثالث يشمل اللجان التي تعني بالدراسة الفنية لموضوع محدود، ومثالها لجان الاقتصاد وشئون العمل والمالية والإحصاء ولجنة النقل والمواصلات ولجنة السكان ولجنة الشئون الاجتماعية ولجنة حقوق الإنسان ولجنة مركز المرأة ولجنة المخدرات. وأما القسم الأخير فيشمل اللجان الإقليمية الاقتصادية وهي التي تقوم بإعداد التقارير والبحوث والدراسات في شئون الاقتصاد والاجتماع وترفعها إلى حكومات الدول الأعضاء في هذه اللجان، ومثالها اللجنة الاقتصادية للشرق الأقصى، واللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية.
الهوامش
- (1) تنص المادة الثانية من عهد العصبة على ما يلي: “The action of the League under this Covenant shall be effected through the instrumentality of an Assembly and of a Council, with a permanent Secretariat”.
- (2) انظر مطبوعات عصبة الأمم الشهرية، الملحق الخاص الصادر في أغسطس سنة 1929.
- (3) راجع في هذا الشأن ما يلي: كتاب سكرتيرية عصبة الأمم: Ten years of World cooperation، طبع بجنيف سنة 1930. ومؤلف Myers وعنوانه: Handbook of the League of Nations، طبع ببوستون سنة 1935، ص 135 وما بعدها. ومؤلف Renborg وعنوانه: International Drug Control، طبع بواشنطن سنة 1947.
- (4) يقضي نص قرار اللجنة بما يلي: The members of committee 3 of commission II are in full agreement that nothing contained in Chapter IX and Chapter X of the Charter can be construed as giving authority to the Organization to intervene in the domestic affairs of Member States. راجع محاضر مؤتمر سان فرانسيسكو، الوثيقة 861, II/3/55.
- (5) انظر محضر الجلسة السابعة عشرة التي عقدتها اللجنة الفنية الثالثة المتفرعة على اللجنة الثانية في أول يونيو سنة 1945، محاضر مؤتمر سان فرانسيسكو، الجزء العاشر، ص 161، وكذلك الوثيقة رقم 747, II/3/46.
- (6) راجع تقرير وفد مصر لدى الجمعية العامة في دورة انعقادها الثاني، ص 290 وما بعدها.
- (7) راجع تقرير وزارة الخارجية المصرية عن مؤتمر سان فرانسيسكو ص 72.
- (8) انظر محاضر مؤتمر سان فرانسيسكو، الجزء العاشر ص 52. وكذلك الوثيقة 493, II/3/21.
- (9) انظر محاضر مؤتمر سان فرانسيسكو، الجزء العاشر ص 277. وكذلك الوثيقة 861, II/3/55.
- (10) المادة 69 من الميثاق. انظر كذلك تقرير وزارة الخارجية ص 73.
- (11) راجع تقرير وفد مصر لدى الدورة الثانية للجمعية العامة ص 292 وما بعدها.
- (12) انظر محاضر المجلس الاقتصادي والاجتماعي، السنة الأولى، الدورة الثالثة، رقم 5، ص 62 وما بعدها، ورقم 6، ص 73 وما بعدها.
- (13) انظر وثائق الأمم المتحدة، E/764. ومؤلف هامبرو وجودريش السابق الإشارة إليه ص 372. ومقال الدكتور زكي هاشم عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي في المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد الخامس، ص 47.
- (14) انظر محاضر المجلس الاقتصادي والاجتماعي في سنته الأولى في دورة انعقاده الأولى، ص 163 وما بعدها.
- (15) انظر التقرير الذي رفعته اللجنة إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دورة انعقاده الثالثة، الوثيقة E/800.
- (16) انظر الوثيقة E(conf.) 6/79.
- (17) انظر الوثيقة E/794.
المراجع
- كتاب القانون الدولي العام، تأليف الدكتور حامد سلطان، أستاذ ورئيبس قسم القانون الدولي العام، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، يناير 1965.