الحلول السحرية للصراعات المستعصية
(1) إدارة التقاطعات
عند التدقيق في التقارير الخاصة بالإحصائيات السنوية للحوادث المرورية وأعداد الضحايا الناتجة عنها في العقود السابقة لدى العديد من الدول يتضح لنا بأنها تُظِهر بشكل عام تناقص تدريجي لعدد حدوثها سنوياً وبشكل تنازلي مُثير للدهشة لدرجة أننا قد نلجأ للتدقيق في تلك الأرقام ومقارنتها بمعدلات زيادة أعداد السكان فيها ومعرفة ما إذا كانت تتزايد كغيرها من الدول أم أنها في تناقص عجيب أدى لخفض أعداد تلك الحوادث، ولكننا سرعان ما نكتشف أنها بالفعل كذلك، حتى أنها قد تكون أحياناً تعاني من معدلات زيادة سكانية أكبر من المعدلات المعتادة في الدول الأخرى، إضافة لما تُعانيه من ازدحام أشد في معظم مناحي الحياة اليومية.
وباعتبار أن التقاطعات المرورية كانت دوماً أحد أكثر مسببات الحوادث في كل البلدان، فقد عملت تلك الدول على إدارة تلك التقاطعات من خلال إنشاء المزيد من الجسور والطرق والتفرعات الاعتيادية، أو حتى الابتكارية، والهادفة إلى التقليل من الحوادث المرورية أكثر من استهدافها لتسيير المركبات في اتجاه قد يكون مرغوباً، لدرجة أننا نستطيع أن نلحظ أحياناً وجود تبذير، بشكل ما، في إنشاء مثل تلك الطرق أو التفرعات الالتفافية التي تهدف فقط للتقليل من وجود التقاطعات التي عُرف عنها أنها مسببة للحوادث إحصائياً، بحكم أن التبذير في التفاف تلك الطرق يُعتبر مشروعاً طالما أنه يهدف بالنهاية للحفاظ على الأرواح.
وإذا صح لنا التشبيه، فإن الصراعات التي تنشأ بين أطراف متعددة في شأن ما، بغض النظر عن ما هية هذا الشأن، هي أقرب ما تكون شبيهة بالمسألة المرورية، ونقاط الخلاف والاختلاف التي أسست لوجود صراع من هذا النوع تكون بمثابة التقاطعات الخطرة في الطرق والتي تتسبب في الحوادث المرورية أكثر من أي شيء آخر، الأمر الذي يقودنا إلى حقيقة الحاجة الملحة لإدارة مثل تلك التقاطعات بنفس الطريقة التي استخدمت من قبل خبراء شرطة المرور لإدارتها في الشوارع، الطريقة التي من شأنها التقليل من نقاط الالتقاء والتقاطع كلما أمكن ذلك، من خلال إنشاء المزيد من الجسور والطرق الرئيسية والفرعية والالتفافات “الضرورية” التي من شأنها تأسيس بيئة انسيابية متكاملة توفّر سهولة التواصل بين جميع الأطراف ولجميع المسارات وبأقل ما يمكن من “التقاطعات” المسببة للحوادث.
يبقى إن نتوقع أن النجاح المنتظر لخطط إدارة التقاطعات الهادفة للتقليل من الحوادث المرورية لن يتوقف على كم الطرق والجسور التي يتم إنشاءها فقط، ولكنه أيضاً سوف يعتمد على التحاليل الإحصائية التاريخية التي من شأنها أن تعزز من القدرة على استكشاف ومعرفة التقاطعات الأكثر حاجة للعلاج ونوعية المركبات الأكثر تسبباً للحوادث، بل والأكثر من ذلك الظروف والأحوال التي ساهمت في وقوعها عند تلك التقاطعات.
(2) إدارة الرؤى المتعددة
تختلف رؤية كل إنسان للأمور المحيطة به بحسب كثير من العوامل، سواء كانت عوامل شخصية خالصة أو اجتماعية عامة أو أي شيء آخر، وبالرغم من إمكان التشابه بين الأفراد في كثير من الصفات الفردية والخصائص المميِزة لهم وحتى الغايات والأهداف النبيلة إلاّ أن الغريب في تلك المسألة أنهم قد يختلفون في رؤيتهم الخاصة لقضية ما بحسب الزاوية التي ينظرون منها لتلك القضية أو حتى عمق تلك النظرة، تماماً مثلما يحدث عند التدقيق في الرسوم الهندسية المتنوعة والهادفة لتوضيح هذا الأمر.
وقد جرت العادة على استخدام مصطلح “الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية” في كثير من مناحي الحياة بالرغم من أنها تطورت وأضحت في كثير من المواضع مجرد اختلاف في زاوية الرؤية أو حتى عمقها أكثر من أن تكون اختلاف في الرأي فعلاً، بخاصة في هذا العصر المليء بالزوايا والأركان المتشعبة وتعدد الظروف والأحوال التي قد تؤدي أحياناً لاضمحلال عمق الرؤية عند البعض ومن ثم نشوء ذلك الاختلاف.
وفي الوقت الذي تبذل فيه كل الأطراف والوسطاء، في صراع ما، أقصى الجهود لتقريب وجهات النظر وإيجاد الحلول الوسط أو القابلة للتنفيذ على أرض الواقع ويعمل كل طرف على إقناع الآخر بوجهة نظره الخاصة ودوافعه التي تجعله يتمسك فيها، إلاّ أن معظم تلك الجهود، حتى وإن كانت متميزة، كانت تفتقد بشكلها العام لأساليب إدارة الرؤى المتعددة للقضايا محل الخلاف وطرق تغيير وتبديل زوايا الرؤية لها، الأمر الذي لو حدث فعلاً لانقلبت وجهات النظر رأساً على عقب وأصبح كل طرف يقتنع تماماً بوجهة نظر الطرف الآخر لدرجة أنه قد ينشأ خلاف جديد بين الطرفين ولكن بوجهات نظر معكوسة!
والله سبحانه وتعالى عندما قال في كتابه العزيز “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” دعانا بالفعل لضرورة التعارف بين الشعوب والقبائل لأهداف عديدة، وباعتقادي أن من ضمن تلك الأهداف هو أن يجعلنا نجد زوايا جديدة للرؤية قد لا تتماشى مع وجهات نظرنا ولا نتبعها ولكنها تساهم في توسيع الآفاق وتعميق المعرفة الأصيلة التي تقترن في أحيان كثيرة بمعرفة الشعوب والقبائل الأخرى وثقافاتهم ورؤية الأمور بشكل تبادلي فيما بينها، فكيف لنا ألاّ نقوم بذلك بين بعضنا البعض في هذا العصر الذي أسس للكثير من الاختلافات بين أبناء الوطن الواحد.
إن إدارة الرؤى المتعددة قد تُشكل مفتاحاً لحل الكثير من الصراعات، وبخاصة المستعصية منها، ولكنها أكثر ما تكون بحاجة للأشخاص الذين يتمتعون بالمرونة نسبياً والقدرة على تغيير زوايا الرؤية حتى وإن كان التمسك برأي معين قائماً ولكن القدرة على تغيير زاوية الرؤية سوف تساهم على الأقل في تقدير مواقف الآخرين وتفهمها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي لإيجاد نقاط التقاء جديدة ويؤسس لتفاهمات عديدة للقضايا محل الخلاف أكثر من أي شيء آخر.
(3) الاتفاقيات الإستراتيجية الذكية
تختلف عملية “الانتقال” من مرحلة الصراع بين أي طرفين إلى مرحلة الوئام والصلح بحسب طبيعة العلاقة الأصلية بينهما قبل نشوء الصراع، فهي إما أن تكون أشبه بعملية إزالة الخلافات والشوائب وعودة العلاقة بين الأصدقاء مثلاً، والتي كانت تتميز بالانسجام والثقة المتبادلة قبل نشوء الصراع، أو أنها قد تكون أشبه بعملية إنشاء حالة جديدة من الصلح بين طرفين لم يسبق لهما أن كانا صديقين أصلاً ولا يوجد بينهما الكثير من روابط الثقة المتبادلة أو حتى لم تكن بينهما أية ثقة تُذكر.
والفرق الخفي بين الحالتين، والذي ينبغي أن يؤسس لكيفية “الانتقال” بين المرحلتين في كل حالة، هو ما يتعلق بالشق الخاص بالشروط والأحكام التي يتوجب وضعها وتكون ملزمة للطرفين، وتختلف هذه الشروط بمضمونها، أو مرونتها وحدتها، بحسب ما يتوفر من معطيات ومواقف في فترة الصراع، وبما يتناسب مع تطلعات الطرفين نحو مستقبل العلاقة بينهما والوضع الذي يجمعهما معاً.
ففي الوقت الذي قد يكتفي فيه الأصدقاء ببعض العتاب الشفوي وعقد النية ضمناً على عودة العلاقة بينهما لشكلها الأصلي، حتى وإن ضمر أحدهما، أو كليهما، إتباع أسلوب جديد مع تحفظات غير معلنة في المرحلة الجديدة بحسب تقديره للمواقف السابقة التي تسببت في الخلاف، إلاّ أنها في الحالة الثانية قد تستلزم عقد الاتفاقيات الإستراتيجية “المشروطة” والتي تحتوي على الكثير من البنود والعبارات الشرطية الذكية المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة للوضع الجديد في حالة الانتقال لمرحلة الصلح بين طرفين متصارعين، بخاصة بين أولئك الذين تصدعت روابط الثقة المتبادلة بينهما بشكل كبير ولأي سبب كان.
والاتفاقيات الذكية، وبخاصة الإستراتيجية منها، هي الوسيلة المثلى التي قد تؤدي ما لا يمكن أن تؤديه الاتفاقيات العادية، وذلك من خلال احتوائها على الكثير من الشروط والأحكام الدقيقة الملزمة لطرفي الصراع على المدى القريب والبعيد الذي قد يحمل بين طياته الكثير من المستجدات، فمن جهة، سوف تؤسس مثل تلك الاتفاقيات للأرضية الصلبة والمرجعية المتكاملة للعلاقة بين الطرفين وطريقة التعاطي مع كل المواقف ولكنها من جهة أخرى، قد تكون أكثر أهمية، سوف تعمل على تعزيز استمرارية الالتزام بالاتفاق ونمو وترسيخ الثقة المتبادلة بدلاً من ضعفها وترهلها بمرور الزمن بسبب التغيرات في الظروف أو الأفراد أو حتى تغير نمط وأهواء الأفراد في نفس الظروف.
يبقى الشق الأهم في هذا الأمر وهو الحاجة لبحث وحصر ما يمكن التنبؤ به من احتمالات لوقوع أحداث أو ظهور مواقف وخلافات قد تنشأ في المستقبل، القريب والبعيد، بحيث يتم دراستها وإضافة ما يناسبها من بنود أساسية وثانوية في الاتفاقيات الذكية ووفق ما يتوفر من رؤى وتحاليل متعددة وتقديرات مستقبلية لجميع المشاركين فيها، وبما يحقق إيجاد وتثبيت الحلول الاحترازية والصحية المناسبة لها ضمن بنود الاتفاق، الأمر الذي من شأنه تلبية احتياجات جميع الأطراف لتعزيز الثقة المتبادلة واستمرارية الالتزام أكثر من أي شيء آخر.