نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الاقتصاد
(4) البندول الاقتصادي البسيط
تصحيح ثقافة ترشيد الاستهلاك
تُعاني معظم الدول حول العالم من تعاقب ظهور الأزمات الاقتصادية بأشكالها المختلفة، ومهما تعددت أسباب تلك الأزمات فإنها غالباً ما تتجسد في إحدى الصورتين النموذجيتين والمتعاكستين للأزمات الاقتصادية والمتعارف عليهما في علم الاقتصاد، وهما حالتي “التضخم” أو “الكساد”، والعجيب في هذا التصنيف أنه لا يمكن الأخذ به في حالة الدول النامية، حيث أنه تتجسد فيها الأزمات الاقتصادية بشكل أكثر تشابكاً وتعقيداً إلى الدرجة التي تظهر فيها حالتي التضخم والكساد بشكل متلازم وفي نفس الفترة الزمنية!!
فالتضخم الذي قد ينشأ في المجتمع والذي يتمثل في وفرة الأموال وشُح المنتجات، أو الكساد الذي يتمثل في شُح الأموال ووفرة المنتجات، هي حالات متعاكسة بالفعل، بل والأكثر من ذلك فإن المجرى العادي للأمور وحتى السياسة التي يتم اتباعها من أجل الحد من أي من الحالتين سوف تؤدي، بطبيعة الحال، إلى نشوء الحالة الأخرى المعاكسة لها، وهو يشبه تماماً حالتي المد والجذر التي تحدث في البحار والمحيطات، بحيث تتعاقبان بشكل طبيعي وانسيابي وصحي في الدول المتقدمة دون إخلال بالنظام الاقتصادي فيها.
وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي في الدول النامية، وبخاصة التي تنشأ فيها حالتي التضخم والكساد بشكل متلازم، فإنه يمكن توصيف العديد من الأسباب الاقتصادية “الظاهرة” التي تؤدي عملياً إلى نشوء مثل هذه المعضلة العجيبة، ولكن هذا التوصيف، في واقع الأمر، يظل قاصراً ويفتقد في جوهره إلى القدرة على تحديد “العلّة” الحقيقية والخفيّة التي تساهم بشكل غير ملحوظ، وربما بشكل غير مفهوم، في نشوء هذه المعضلة، وبمعنى آخر فإننا نظل دوماً بحاجة إلى توصيف ما يمكن أن نطلق عليه “أسباب الأسباب”، والتي غالباً ما تكون مجرد ثقافة سلبية سائدة في المجتمع أكثر من أي شيء آخر.
ومن أمثلة ما يمكن أن يكون سبباً خفياً لنشوء المعضلات الاقتصادية المستعصية هو الثقافة السلبية السائدة في المجتمع حول ما يتعلق بمسألة ترشيد الاستهلاك، والتي غالباً ما يتم استعمالها كوسيلة للحد من تفاقم الأزمات الاقتصادية بكل أشكالها، بحيث تؤدي تلك الثقافة إلى زيادة تفاقم المشكلة بدلاً من التخفيف منها، وذلك لأنها ثقافة تستند في جوهرها على مبدأ “الوفرة”، بحيث يلتزم بها شريحة غير المقتدرين مادياً في المجتمع فقط دوناً عن غيرهم من المقتدرين الذين لا يكترثون لمسألة ترشيد الاستهلاك ويساهمون بشكل خفي في تفاقم المشكلات الاقتصادية وزيادة تعقيدها وتشابكها، سواء بقصد أو بدون قصد.
فشريحة المقتدرين في المجتمع قد تزيد من معدلات الشراء في أوقات التضخم بالرغم من شُح المنتجات وارتفاع الأسعار وتساهم بالتالي بشكل مباشر في إنقاص تلك المنتجات بالرغم من شحها أصلاً، كما أنها تزيد من كمية الطلب عليها وبالتالي تساهم في رفع أسعارها بشكل أكبر وأكبر على الفقراء، ومن جهة أخرى فإن غالبية تلك الشرائح التي لا تتأثر بأوقات الكساد نظراً لاقتدارها ووفرة أموالها حتى في تلك الأوقات، تستمر في زيادة الطلب على المنتجات الوفيرة أصلاً فتزيد من كمية الطلب عليها حتى في أوقات وفرتها، ما يؤدي لمنع انخفاض أسعارها بحسب الأوضاع الطبيعية، ومن ثم حرمان الفقراء من الاستفادة من هبوط الأسعار وقت الكساد.
والحل الأمثل لهذه المعضلة، التي حيّرت علماء الاقتصاد حول العالم، هو تغيير جوهر ثقافة ترشيد الاستهلاك وإعادة بنائها على أساس “التضامن” بين شريحتي المقتدرين وغير المقتدرين في المجتمع، والممثلتين بشكل ما لحالتي التضخم والكساد بالمفهوم الاجتماعي، بحيث تكون ثقافة سائدة في كل الأوقات وليست ثقافة مبنية على أساس الوفرة، فلو أن شرائح المقتدرين اتبعوا سياسة ترشيد الاستهلاك في أوقات التضخم والكساد من منطلق التضامن والتعاضد مع غيرهم من غير المقتدرين، بغض النظر عن أوضاعهم الاقتصادية والوفرة المالية التي يتمتعون بها، فإنهم سوف يساهمون بذلك في إعادة التوازن إلى السوق وجعله يتنقل بين حالتي التضخم والكساد بشكل طبيعي وانسيابي بدون إخلال في النظام الاقتصادي وبدون المساهمة في تفاقم المشكلة، وبطريقة تحافظ على معدلات الاستهلاك والانتاج وتُعيد التوازن شيئاً فشيئاً إلى السوق بالإضافة إلى المحافظة على الموارد المختلفة في المجتمع في كل المواسم وفي جميع الأحوال.
من جهة أخرى، ربما أكثر أهمية، سوف يؤدي التصحيح في ثقافة ترشيد الاستهلاك وإعادة بنائها على أساس التضامن بين فئات وشرائح المجتمع المختلفة إلى الدفع باتجاه تصحيح ثقافة العمل والإنتاج أيضاً، وربطها بشكل مباشر بالسلوك الاستهلاكي الصحي الذي يتطلب زيادة العمل والإنتاج في أوقات التضخم مثلاً، ومن ثم الدفع باتجاه نشوء حالة الكساد بشكل طبيعي وانسيابي، وهكذا في كل مرة تصبح عملية الانتقال بين حالتي التضخم والكساد بشكل متعاقب هي عملية انسيابية وطبيعية، تماماً مثل حركة البندول البسيط، التي تؤدي الحركة في أحد الاتجاهين فيه إلى توليد القوة الدافعة للحركة في الاتجاه الآخر وصولاً إلى حالة الاتزان التي تظهر عند منتصف المسافة بينهما.
بقلم: د. م. مصطفى عبيد