الاستثمارات المعلوماتية.. والاحتلال المعلوماتي!!
لقد كانت ولا تزال المعلومات هي أحد أهم ركائز الاستثمار في الدول المتقدمة وعلى كافة الأصعدة، سواء كان ذلك بشكل واضح ومُعلن أو حتى بشكل سري وخفي يكاد يضاهي الأعمال الإستخبارية الشديدة السرّية، ولا تكتفي تلك الدول بحرصها على تنمية اقتصادياتها علمياً وعملياً على أرض الواقع من خلال التجارب العملية والأبحاث المبنية على تحليل المعلومات الخام بل يتعدى ذلك حتى يصل لإنشاء أجهزة استخبارات تجارية واقتصادية متخصصة لدعم وتعزيز وحتى تطوير الإقتصاد من جهة وتطويق أية مخاطر قد تصيبه من جهة أخرى، وهذا ليس بالأمر الغريب في عالم بات يتطور بشكل كبير ويتجه لأن يصبح قرية صغيرة مترابطة ومترامية الأطراف في آن معاً، الأمر الذي جعل من كل شيء حول العالم عناصراً قد تكون مؤثرة في إقتصاديات تلك الدول، في حين يبقى الوطن العربي لا يزال غير مستفيد بالشكل الأمثل من هذا العصر ويكاد يكون مستهلكاً لتكنولوجيا حديثة بشكل خجول لا يرقى للاستفادة منها بطريقة تتناسب فعلياً مع قيمتها الحقيقية.
ومن الأمثلة المهمة التي يمكن طرقها لإظهار ضعفنا المعلوماتي مقارنة بدول الغرب هي تلك التي تتجلى عند المقارنة بين قدرة كل من الجريدة المطبوعة والجريدة الإليكترونية معلوماتياً، وكيف أنه يمكن استثمار المعلومات التي تتوفر لدى الجريدة الإليكترونية أثناء تصفح القرّاء لها، فهي تستطيع معرفة اهتماماتهم كما يمكنها تصنيف الدول التي يتصفحون منها والأبواب الأكثر تصفحاً لها وحتى أوقات تصفحها وسائر المعلومات الأخرى، وقد يصل الأمر أن تساهم كل تلك المعلومات في تحليل واستكشاف المعرفة التي قد يعجز مركز أبحاث متخصص عن استكشافها في دراسات أخرى قد لا تمت للصحافة بصلة. وبطبيعة الحال يمكن من خلال تلك المعرفة التي تتوفر للجريدة الإليكترونية الاستفادة في عمليات التطوير والتجديد والتخطيط لاستكشاف سبل كسب القراء الجدد وإظهار الجريدة بالشكل الأمثل الذي يحبذه القراء والكثير من الأمور الأخرى، في حين أنه يبقى عدد المبيعات هو الرقم الإحصائي الوحيد الذي تعرفه الجريدة المطبوعة حتى وإن كان موزعاً بشكل تاريخي على المناطق المختلفة، بالطبع هذا باستثناء الجرائد التي تتفهم أهمية البحث العلمي وتقوم أحياناً بإعداد الأبحاث الميدانية لدراسة آراء عينات محددة من القرّاء بهدف معرفة ولو جزء يسير جداً من جميع ما سبق بهدف التطوير والتجديد وتعزيز الإنتشار.
وتنطبق هذه المقارنة على كافة الأنشطة وفي كل المجالات وبدون استثناء وبخاصة المجال الاقتصادي، فهناك من المؤسسات الحكومية والأهلية والشركات الخاصة وحتى مراكز الأبحاث التي يفترض أنها متخصصة في البحث العلمي، لا تزال تعمل بأسلوب “الجريدة المطبوعة” البعيدة عن المعرفة، أو على أقل تقدير لا تقيم وزناً للمعلومات ولا للبحث العلمي المبني على أسس تحليلية حتى وإن كانت تستخدم تكنولوجيا تساهم في تكديس المعلومات إليكترونياً، فهي عادة لا تخطط للاستفادة منها بالطريقة التي تساهم في تطوير وتحديث العمل بكافة الأشكال والمساهمة في “تخليق” التنمية بشكل إبتكاري غير تقليدي، كلٌ في تخصصه، في الوقت الذي أصبحت تعتبر فيه المعلومات أحد أهم موجودات المؤسسات والشركات وجزء مهم من رأس مالها الذي ينمو بشكل تلقائي نتيجة تخزين المعلومات يومياً.
إن الاستثمار المعلوماتي يتعدى الكثير مما تم ذكره هنا، حتى أنه من الممكن أن يتم بيع وشراء المعلومات الخام كعملية استثمار بحتة وكأنها أحد الموجودات أو الأصول لمشروع ما، ففي سياق المثال المذكور تكون أهم خطوة لمؤسسة ترغب في إنشاء جريدة إليكترونية جديدة أن تقوم بشراء كافة المعلومات التاريخية لفترة معينة لدى جريدة شبيهة قائمة فعلاً، ومن ثم تقوم بعملية دراسة وتحليل لتلك المعلومات بهدف استكشاف وتحديد شكل الجريدة التي ستقوم بتأسيسها وتجعلها أقرب ما تكون لاهتمامات القاريء الذي تستهدفه، الأمر الذي سيساعد في تحقيق النجاح والانتشار الذي تطمح إليه. وبالطبع يمكن أن ينطبق ذلك على الكثير من المشروعات الأخرى في معظم المجالات بغض النظر عن تخصصها.
والسؤال المطروح الآن، وفي ضوء تلك المقارنة التي توضح قيمة المعلومات والمعرفة التي تتوفر من خلال تحليلها ودور تلك المعرفة في تحقيق التنمية والتطوير والتجديد والتخطيط السليم في كافة المجالات، هل سنعطيها الاهتمام الكافي والضروري ونستثمرها بالشكل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف، أم أننا سنظل ندّعي استخدام التكنولوجيا كنوع من “البريستيج” الإستهلاكي فقط بدون تحقيق الإستفادة المثلى منها.
في الواقع، ووفق مؤشرات الإنجازات والاهتمامات البحثية والتحليلية في الوطن العربي من جهة وسياسة “الإحتضان المعلوماتي” التي نشهدها من خلال استخدام تطبيقات شبكة الإنترنت العالمية من جهة أخرى ووجودنا في مستوى معلوماتي أدنى من مستوى الغرب في تلك الشبكة، فإنني أخشى أن يأتي يوماً يكتمل فيه الإحتلال معلوماتياً لكافة أرجاء الوطن العربي. ومع ذلك، ومن باب الإنصاف العلمي المحايد لأصحاب الرؤى المعمقة والإستراتيجية، فإنني أؤكد بأن الأمل الوحيد الذي نستطيع أن نعوّل عليه في المستقبل ونأمل أن يساعدنا في تخطي مساوئ ذلك الاحتلال المنتظر هو تميّز قدراتنا في التحليل الجيد للمعلومات ليتسنى لنا الاستفادة منها أكثر من استفادة المحتل المعلوماتي لها، حتى وإن كانت تحت الاحتلال.