الأسس الفنية للتنسيق والتعاون الأمني
(1) المعايير والمواصفات القياسية لهيكلية قواعد البيانات
إن الحديث عن التنسيق والتعاون بين جهات متعددة يشمل الكثير من النقاط الأساسية التي يتوجب أخذها بالاعتبار، وبالطبع تأتي الغايات والأهداف التي تتبناها كل جهة في مقدمة تلك النقاط التي ينبغي أن تؤسس، وبشكل استراتيجي، لمثل هذا التنسيق والتعاون، بحيث يصبح، بشكل ما، نوعا من المشاركة الفاعلة التي يتم السعي من خلالها لتحقيق أكبر قدر من “الأهداف المشتركة” أولاً، ومن ثم يمتد هذا الأمر ليشمل تحقيق المزيد من الأهداف الأكثر تخصصاً والتي تهتم بها كل جهة بشكل منفصل.
ومن الأمور الفنية المهمة، والضرورية، التي يتوجب الاهتمام بها في هذا السياق هو ما يتعلق بمسألة “نظم قواعد البيانات” وبنوك المعلومات بشكل عام، والتي تتوفر لدى كل جهة من الجهات التي تخطط للقيام بالتنسيق والتعاون فيما بينها لضمان نجاح العمل وتحقيق الأهداف التي تسعى لها، بحيث يتوجب أن تكون تلك النظم، إضافة لتصميمها بشكل جيد، منسجمة معاً، ويتم تصميمها وهيكلتها وفق أسس ومعايير قياسية موحدة، بقدر الإمكان، بما يضمن خلق ما يمكن أن يطلق عليه “وحدة النسق المعلوماتي” الواجب توفره بين تلك الجهات، والذي سيساهم بكل تأكيد في رفع درجة التنسيق والتعاون بشكل عام لأعلى مستوى له.
وفيما يختص بالشأن الأمني تحديداً، وحتى يتم خلق حالة من التنسيق بين كافة الأجهزة الأمنية وضمان تعاونها وتكاملها معاً وتوحيد جهودها، فإنه من الواجب أن يتم العمل على تحديد المعايير والمواصفات القياسية لهيكلية قواعد البيانات وبنوك المعلومات فيها، أو في جهات غير أمنية إذا تطلب الأمر، بالإضافة لتحديد مواصفات نماذج إبراز المعلومات والتقارير الإستخبارية والتحليلات المقدمة لصنّاع القرار الأمني، بحيث يساعد هذا الأمر بشكل أساسي على توحيد بُنيتها بما يضمن أكبر قدر من “التنسيق المعلوماتي” بين كافة الجهات الأمنية، وغير الأمنية، التي تسعى للتنسيق والتعاون فيما بينها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تنظيم عمليات تبادل كل من “المعلومات الخام” والتحليلات بين تلك الجهات، بالإضافة لتعزيز القدرة والكفاءة عند التعاون لتنفيذ عمليات التحليل وتقديم النتائج لصنّاع القرار الأمني.
وبطبيعة الحال، تندرج مهمات تحديد المعايير والمواصفات القياسية لبنية وهيكلية قواعد البيانات وكافة مخرجاتها ضمن مسئوليات ومهمات الجهة العليا في هيكلية المجتمع الأمني التي تقوم بالتخطيط ووضع السياسات الأمنية في الدولة وتعمل على خلق حالة التعاون والتنسيق بين الأجهزة الأمنية، والمتمثلة هنا بمجلس الأمن القومي، بحيث تنسجم تلك المعايير والمواصفات مع طبيعة التصور المناسب الذي يرتأيه المجلس للهيكلية المثلى لقواعد البيانات ومخرجاتها، والذي يُفترض أن يساهم بدوره، وبشكل أساسي، في رفع كفاءة التحليل عندما يتم تصميمها بشكل جيد من جهة، وتيسير سبل التعاون والتنسيق المنشود بين كافة الأجهزة الأمنية وغير الأمنية والعمل على تحقيقه بالشكل الأمثل عندما تكون مصممة وفق تلك المواصفات من جهة أخرى.
(2) ترميز المعلومات
إن التنسيق والتعاون بين عدة جهات عادة ما يكون أمراً إيجابياً ويساهم بشكل كبير في تحقيق الأهداف المرجوة للجهات التي تقوم به، لكنه أيضاً، ولأسباب عديدة، قد يحمل في طياته العديد من المخاطر إذا ما كان الحديث عن تنسيق وتعاون في مجال أمني واستخباري، بحيث يصبح هذا التعاون، أو حتى التنسيق، وكأنه كان من أجل إيجاد وخلق “الخطر الأمني” الذي يتم العمل على منعه من الحدوث أصلاً!
وتفاصيل تلك المعادلة الصعبة، التي قد يعاني من جرّاءها مجتمع بأكمله، تكمن في العديد من النقاط الفنية الخفية والتي قد لا تؤخذ في الحسبان خلال مجمل مراحل العمل الأمني الذي تقوم به، أو حتى تهمله بدون قصد، المؤسسة الأمنية بكافة أذرعها، في هذا العصر المليء بالثغرات، بحيث يتم التأسيس، بشكل غير مقصود، لسلسلة لا نهائية من الأخطار الأمنية المتراكمة، والمركبة، والتي قد تؤثر على الجميع بلا استثناء، حتى على أولئك المتسببون بها عن طريق الخطأ.
ومن أهم الأمور الفنية التي تؤسس لمثل تلك الأخطار هي ما يتعلق بمسألة “المعلومات” وطرق تداولها وتدفقها بين الإدارات المختلفة في نفس الجهة الأمنية الواحدة، أو حتى بين عدة جهات أمنية تقوم بالتنسيق والتعاون فيما بينها، وبالرغم من أن تداولها يلعب دوراً مهماً، إن لم يكن الأهم على الإطلاق، في تحقيق حالة التنسيق والتعاون فيما بينها، إلاّ أن هذا التداول، بالمقابل، ينبغي أن يكون بطريقة لا تساعد على نشوء الأخطار الأمنية التي يتم التنسيق والتعاون من أجل منعها. والمشكلة تحديداً تكمن في التناقض الغريب الذي أسس له عصر تكنولوجيا المعلومات، بحيث أنه أوجد الداء والدواء في آن معاً.
والحل الأمثل لتلك المعضلة، أو إذا استطعنا تسميتها بـ “الشرّ” الذي لا بد منه لتحقيق حالة التنسيق والتعاون المنشود، هو أن نلجأ لما يسمى بعمليات “الترميز” للمعلومات المتداولة، والتي تستخدم عادة في إخفاء المعلومات الأصلية واستبدالها برموز غير محددة الملامح بهدف خلق حالة “الإنضباط المعلوماتي” المعاكس تماماً لحالة “الفلتان المعلوماتي” التي قد تنشأ بطريق الخطأ، ويمكن تطبيق عمليات الترميز خلال جميع المراحل الخاصة بالتعاطي مع المعلومات، بدءاً من عمليات التخطيط لجمعها، ومروراً بعمليات جمعها وتنظيمها وحتى تمحيصها وتحليلها وتداولها، بحيث نستطيع من خلال هذا الترميز أن نحقق، وبشكل آمن، أقصى درجات التعاون والتنسيق بالشكل الصحيح والملائم، سواء بين الإدارات المختلفة التي تقوم بتنفيذ مهماتها في نفس الجهة الأمنية الواحدة أو حتى بين الجهات الأمنية المتعددة والتي يتم التنسيق بينها وتتعاون في تخطيط وتنفيذ تلك المراحل.
ومن أكثر الأمثلة شيوعاً، بل وحتى وضوحاً في المجتمع، بخصوص هذا الشأن والتي تُظهر بالفعل أهمية تلك المسألة، وضرورتها، هو ما يحدث في أجهزة الإحصاء المركزية في كافة الدول، فالمعلومات التي يتم جمعها ضمن الأنشطة الروتينية لتلك الأجهزة، والهادفة عادة للتعداد السكاني وسائر الأنشطة الإحصائية الأخرى، تمر غالباً بمرحلة “الترميز”، لدرجة أنه من الممكن أن يكون في تلك الأجهزة، إذا كان عملها محكماً، وهذا أمر نادر، إدارة مستقلة متخصصة تقوم بعمليات الترميز، وإن كانت تهدف عادة لتسهيل عمليات إدخال المعلومات إلى الحاسوب واختصار الكثير من الوقت لتنفيذ هذا الأمر، إلاّ أنها أيضاً يمكن أن توفر الدعم والتعزيز لمبدأ سرية المعلومات الذي غالباً ما تتعهد به بشكل قانوني، موثّق، تجاه المجتمع ككل عند تنفيذها لتلك الإحصاءات.
إن تطبيق مبدأ “ترميز” المعلومات الأمنية واعتماده ضمن آلية العمل الأمني واعتباره كأحد مراحل التعامل مع المعلومات الخام، أسوة بما يحدث في أجهزة الإحصاء، أصبح ضرورة ملحة في هذا العصر المعلوماتي، وبخاصة في ظل الحاجة للتنسيق والتعاون الأمني بهدف خلق حالة من التكامل بين جهات متعددة، أو حتى بين إدارات متخصصة في نفس الجهة، تعتني كل منها بنوعية معينة من المعلومات أو إجراءات يتم تطبيقها عليها، وذلك بهدف منع العديد من الأخطار الأمنية المحتملة، بحيث يُراعى دوماً أن هناك من المعلومات ما يمكن الإفصاح عنه وتبادله ضمن قنوات آمنة وبشكل واضح وجلي بهدف التنسيق والتعاون، وهناك أيضاً ما يتوجب الإفصاح عنه، أو تبادله، بشكل رمزي، أو أن يكون أشبه بـ “قاعدة رياضية” أو حتى مؤشرات ناتجة عن عمليات التحليل للمعلومات المرمّزة، وتبقى الحالة الأخيرة، والتي تعتبر الأهم، وهي أن هناك من المعلومات ما لا يمكن الإفصاح عنه على الإطلاق وقد تكون الحاجة لذلك أحياناًَ، لتحقيق التنسيق والتعاون الأمني، أكثر من أي شيء آخر!
إن الفوائد التي يمكن أن توفرها تلك العمليات يمكن أن تفوق ما نقصده تحديداً هنا في هذا المقال، لكن من المؤكد أن الخبراء الأمنيين، الذين مارسوها ونفذوها عملياً عند نقلهم وتداولهم للمعلومات الأمنية والاستخبارية ضمن قنوات “غير آمنة”، يستطيعوا الآن أن يكتشفوا كيف يمكن لهذه الوصفة السحرية أن توفر مزيداً من الإنضباط الأمني المعلوماتي، والذي سيساهم بشكل كبير في ضمان سرية المعلومات المتداولة حتى في القنوات التي تعتبر آمنة ومنع وقوع الكثير من الثغرات المسببة للخروقات الأمنية، بالإضافة لما توفره من تعزيز لمبدأ التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، وغير المشتركة، بطريقة تحفظ لكل جهة خصوصيتها المعلوماتية، ناهيك عن السهولة التي ستوفرها تلك الوصفة حتى في كشف أية ثغرات قد يتم اختراقها في أي مرحلة من مراحل العمل الذي يتم ترميزه بطريقة مميزة من شأنها أن تساعد بالتأكيد على كشفها.
(3) في التخطيط المشترك
كثيراً ما تكون عملية التخطيط نابعة من فكر ورؤية معمقة واستراتيجية بعيدة المدى، تحمل في طياتها الكثير من المزايا التي من شأنها أن تؤسس وتساهم في تحقيق الأهداف والغايات التي يتم التخطيط من أجلها، لكنها غالباً ما تفتقد، إذا كانت بالفعل كذلك، لما يسمى “تعدد زوايا الرؤية” التي أكثر ما تكون الحاجة لها عند التخطيط لتحقيق مجموعة من الأهداف المتنوعة في عدة شؤون مترابطة ومتداخلة، وبخاصة عندما يكون هناك العديد من المؤثرات الخارجية من جهة، والتأثير المتبادل بين تلك الشؤون من جهة أخرى، وأكثر ما تكون الحاجة لذلك عند القيام بما يسمى بالتخطيط المشترك.
وعند الحديث عن التخطيط المشترك في سياق التنسيق والتعاون في المجال الأمني تحديداً، فإنه سيكون الاهتمام بمسألة “ترتيب الأولويات” أكثر من الإهتمام بأي شيء آخر، بحيث يتناسب هذا الترتيب مع مجمل الرؤى التي ستقوم بالتنسيق والتعاون لتحقيق تلك الأهداف، الأمر الذي يعد بمثابة “معضلة” في هذا العصر المتشابك والمتغير، والذي أسس للكثير من التداخلات بين مختلف شئون الحياة وعزز من علاقتها المباشرة، وغير المباشرة، بالمسألة الأمنية، بحيث أننا لن نستطيع الحديث عن خطة أمنية، مثلاً، دون الحديث عن مشاركة في وضع التصورات المختلفة لجميع الجهات المعنية بإنجاحها.
وقد تفضي تلك المشاركة، أحياناً، في نشوء الكثير من الخلافات حول أهداف ومقومات وركائز التخطيط المزمع القيام به، بخاصة عندما يكون هناك بالفعل إحساساً بالمسئولية تجاه إعداد خطة يمكنها أن تحقق الأهداف المرجوة، بحيث يُصبغ مثل هذا الإحساس تلك الخلافات بصبغة “صحية”، لدرجة أنها تصبح وكأنها عاملاً مهماً وضرورياً للتوصل في النهاية إلى أفضل الخطط التي تنسجم مع كل الرؤى من المختلف الزوايا والتي نشأ الخلاف حولها، ولأجلها، أصلاً.
ومن أكثر الأخطاء شيوعاً، عند القيام بالتخطيط المشترك، هي الوقوع في فخ الصراع من أجل وضع خطة لتحقيق الأهداف الأكثر أهمية، بل والأكبر حجماً وشمولاً أحياناً، أولاً دوناً عن غيرها من الأهداف من وجهة نظر كل جهة من الجهات التي تخطط بشكل مشترك، بحيث تبرر ضرورتها بحكم حجمها من الأهمية، في الوقت الذي قد تكون فيه أهدافاً أخرى، تقع مثلاً في ذيل قائمة الأهمية من وجهة نظر جميع الجهات، هي الأولى بالبدء بتحقيقها، بحيث تُشكل، بوجودها وهي محققة، الركيزة الأساسية، والضرورية، لإنجاح تحقيق الأهداف الأكثر أهميةً وشمولاً، تماماً مثلما تفعل حبة الرمل التي تستخدم في إيقاف “البيضة”، باتزان، على رأسها.
وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه الخطة الأمنية التي ستنتج عن عملية التخطيط المشترك متناسبة مع، وتراعي، خصوصية المجتمع الذي يتم تطبيقها فيه بالإضافة للسمات الأساسية لهذا العصر، بحيث تحتوي على الكثير من التفاصيل التي تجعلها منسجمة مع كافة الرؤى المختلفة لسائر الشئون الأخرى المرتبطة بالمسألة الأمنية، إلاً أنه من الضروري أيضاً، وبشكل أكثر أهمية، أن تلتزم الجهات التي سوف تشارك في وضع تلك الخطط بالمساهمة في تحديد المعايير التي سوف تستخدم في قياس مدى نجاح الخطة وفاعليتها ومدى تحقيقها للأهداف، تماماً مثلما شاركت في ترتيب كل من أهمية وأولوية تلك الأهداف عند بدء التخطيط المشترك.