نحو التطوير الاستراتيجي للنظم القانونية
(3) استقراء القاعدة القانونية – Legal Rule Induction
بالرغم من الاختلاف الكبير بين العلوم القانونية والرياضيات وعلم الحاسوب أو العلوم الطبيعية بشكل عام، إلاّ أنها ترتبط فيما بينها وتتشابه بشكل خفي يتجلى في أن كل منها يستند إلى سيادة “القوانين” والقواعد التي تنظمها، سواء كانت “القوانين” ذات الصياغة اللغوية المحكمة في العلوم القانونية أو “القوانين” ذات الصياغة الرياضية في الرياضيات وعلم الحاسوب والعلوم الطبيعية، هذا بالإضافة لسيادة المنطق اللغوي والرياضي فيهما بشكل كبير ربما يندر تكراره في العلوم الأخرى.
وفي الوقت الذي يلزم لتطوير القوانين والمعادلات الرياضية واشتقاق المزيد منها في العلوم الطبيعية الكثير من الجهد الفكري والرياضي المجرد وأساليب الاستنتاج والاستنباط إلاّ أن هذا الجهد يتم تعزيزه في كثير من الأحيان بإجراء البحوث التطبيقية الاستقرائية على أرض الواقع في المختبرات البحثية والتي من شأنها استقراء القواعد بطرق أكثر دقة وتفصيلاً أو تأكيد أو نفي ما توصل إليه الجهد الفكري الرياضي وتحديد النتائج وفقاً للظروف والمعطيات المتعددة التي يتم التعامل معها في المختبرات.
والتناغم الحادث بين كل من إجراءات البحث العلمي التطبيقي الاستقرائي الممنهج وبين آليات التفكير المنطقي والرياضي المجرّد الذي يظهر في مجتمع العلوم الطبيعية دوناً عن غيره من مجتمعات العلوم الأخرى يكاد أن يكون تناغماً نموذجياً وبلا أية ثغرات، حتى أنه تسبب في كثير من الأحيان بالحيرة لبعض العلماء والباحثين المتخصصين في تلك العلوم لدرجة وصلت إلى حد الالتباس حول تحديد أصل بعض القوانين والمسلّمات العلمية الفريدة، فعلماء مختبرات البحوث العلمية التطبيقية يعتقدون أنها مسلمات رياضية بحتة ومجردة استنبطها علماء الرياضيات في حين أن علماء الرياضيات يعتقدون أنها حقائق تم استقراؤها بالفعل في مختبرات البحوث العلمية التطبيقية!
وإذا كان التشابه والارتباط بين العلوم القانونية والعلوم الطبيعية يأخذ هذا المنحى المهم من حيث سيادة القوانين وسيادة المنطق اللغوي والرياضي فيهما فإن هذا التشابه والارتباط ينبغي له أن يتمدد ليكون شاملاً لأساليب التطوير والتجديد وطرق اشتقاق المزيد من القوانين بحيث تكون متشابهة أيضاً، وذلك من خلال اعتماد أساليب البحث العلمي الاستقرائي في تطوير النظم القانونية تماماً مثلما يحدث في العلوم الطبيعية، فإذا افترضنا أن هناك حاجة لتطوير قوانين المرور، مثلاً، من أجل الحد من وقوع الحوادث المرورية، فإن هذا التطوير ينبغي أن يكون مستنداً إلى بحوث علمية يتم من خلالها دراسة وتحليل بيانات وإحصاءات كل الحوادث المرورية واستكشاف الأسباب الأكثر شيوعاً لوقوع الحوادث والظروف والأحوال الأكثر مساهمة في وقوعها، بالإضافة لدراسة وتحليل سمات وخصائص المتسببين بها، بحيث تساهم المعرفة التي يتم الحصول عليها من تلك الدراسات والتحليلات في استقراء قواعد وضوابط جديدة يتم صياغتها واستحداثها على هيئة قوانين جديدة تحقق أهداف الحد من الحوادث المرورية.
وبالرغم من تعاظم وتشابك الكثير من المشكلات الحيوية في معظم المجتمعات في هذا العصر، إلاّ أن المفارقة العجيبة في هذا العصر أيضاً أن اعتماد منهجية البحث العلمي الاستقرائي لإيجاد الحلول الجذرية لأية مشكلة أصبح أمراً يسيراً أكثر من أي وقت مضى، فبعد أن كان البحث العلمي يستلزم الكثير من الوقت والجهد وتوفر الإمكانات للدرجة التي بات عدم توفرها مبرراً كافياً للتقصير والتأخير في حل المشكلات، أصبح الآن هو الوسيلة الأسهل والأسرع لحلها، علاوة على ما يوفره من إمكانية للحصول على نتائج دقيقة وصحيحة تستند على أسس علمية، وذلك نظراً لما وفرته الأدوات التكنولوجية الحديثة التي تقوم بالعديد من الإجراءات البحثية المعقدة وبلمح البصر بعد أن كانت تستلزم الكثير من الوقت والجهد والإمكانات!
إن تطوير النظم القانونية أصبح ضرورة ملحة في هذا العصر، كما أنه أصبح، ربما لحسن الحظ، أكثر يسراً من ذي قبل ولا يتطلب جهوداً كبيرة كتلك التي كان يتطلبها البحث العلمي في العقود الماضية، فيكفي لتطوير كل قوانين المرور مثلاً إجراء دراسة تحليلية لبيانات وإحصاءات حوادث المرور ومن ثم استكشاف واستقراء ما يمكن أن يشكل قواعد وقوانين مرورية جديدة تساهم في الحد من وقوع الحوادث، وينسحب هذا الأمر على الكثير من القوانين المتعلقة بالمجالات الحيوية الأخرى في المجتمع.
يبقى أن نتساءل عن كيفية تحديد الحاجة لتطوير النظم القانونية في مجال معين من المجالات لكي يتم البدء بالتفكير في تطوير القوانين والقواعد المنظمة له، والغريب أن الإجابة على هذا التساؤل تتضمن المفتاح الأهم لحل المشكلة أصلاً، وهو ما يتمثل في الإحصاءات الخاصة بالأنشطة المرتبطة بذلك المجال، فمن خلال ما تُظهره الإحصاءات المرتبطة بمجال معين والتي عادة ما تكون إحصاءات فريدة من نوعها أو شاذة وغير اعتيادية وتفيد بوجود ظاهرة سلبية في المجتمع بحاجة للعلاج، كإحصاءات حوادث المرور التي تُظهر تفاقم وقوعها وتُنذر بوجود مشكلة في مجتمع ما، فتلك الإحصاءات هي التي سوف يتم الاستناد عليها لتطوير نظم قوانين المرور واستقراء القواعد المرورية الجديدة التي من شأنها المساهمة في حل مشكلة المرور أكثر من أي شيء آخر.
فإذا افترضنا مثلاً أن إحصاءات حوادث المرور أظهرت ارتفاعاً كبيراً في معدلات وقوع الحوادث المرورية التي يتسبب بها أشخاص دون سن العشرين من العمر مقارنة مع من هم أكبر من عشرين سنة، فإن هذه الإحصاءات سوف تدفع باتجاه استقراء قاعدة مرورة جديدة ترفع من السن القانوني لمنح رخصة قيادة المركبات إلى عشرين سنة بدلاً من ثمانية عشرة سنة، وبنفس الطريقة يمكن للإحصاءات والتحليلات الإحصائية المتنوعة التي تُظهر معدلات شاذّة وغير اعتيادية في مجال من المجالات الحيوية في المجتمع أن تساهم في استقراء القواعد القانونية الجديدة اللازمة لتطوير النظم القانونية المرتبطة به، الأمر الذي جعل من عملية التطوير والتجديد أمراً يسيراً ويمكن تطبيقه بالسرعة الممكنة وبمجرد الإعلان عن المشكلة إحصائياً.