نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الاقتصاد
(1) هندسة الاستثمارات المتكاملة
تعاني معظم الدول النامية من تراجع البنية الاقتصادية بشكل عام وبخاصة تلك التي لا تمتلك الكثير من الموارد والثروات، ومهما تنوعت أسباب هذا التراجع في كل منها إلاّ أنها تتشابه في كونها تأسست بشكل تراكمي تشعبي على مر العقود، بحيث أصبح من الصعب معالجتها بالطرق الاعتيادية التي قد تُناسب بيئات أكثر قوة من حيث البنية الاقتصادية أو حتى من حيث توفر الموارد والثروات، والتي حتى وإن استخدمت فيها سوف تعمل على زيادة المشكلة أكثر من العمل على حلها في كثير من الأحيان.
وتفاصيل تلك المعضلة تكمن في التراكمات والتشعبات في الأسباب الخفية التي ساهمت في استشراء الترهل الاقتصادي بشكل تصاعدي متعاظم حتى أصبح يشكل أزمة حقيقية وتغلغل وأثر بشكل أكبر على الفئات الأكثر حاجة في المجتمع، وما تبع ذلك من محاولات لوضع حلول “مؤلمة” ذات طابع استثماري بحت، كمحاولة لعلاج الأزمة الاقتصادية، كانت في شكلها العام أشبه بإتاحة الفرصة لحوت جائع بأن يدخل السوق وينقض على ما تبقى من مقدرات لدى تلك الفئات المتضررة أصلاً، بحيث ساهم هذا الأمر في زيادة وتراكم الخلل في الوضع الاقتصادي برمته.
وإذا كنا بصدد الحديث عن حلول حقيقية تتناسب مع كل حالة فإنه ينبغي أن تكون حلولاً اقتصادية شاملة لسلسلة المشكلات التراكمية المتشعبة والمركبة وليس حلاً استثمارياً، بحيث يتم التأسيس لما يمكن أن نطلق عليه “الاستثمارات المتكاملة” والتي تساهم بشكل تصاعدي في تعزيز قطاعات مختلفة في المجتمع وبشكل تبادلي، تماماً مثلما حدث في منحنى النزول الذي أوجد الأزمة بشكل خفي ولكن في الاتجاه العكسي، وذلك بهدف إعادة هندسة الاستثمارات المتنوعة في عدة قطاعات وربطها بين بعضها البعض من جهة وبين المواطن من جهة أخرى ليصبح هو محور وأساس وجود تلك الاستثمارات وليس مجرد وسيلة لتحقيق أرباحها فقط.
ومهما تعددت الأساليب الهادفة لتحسين الوضع الاقتصادي في أي بيئة فإنها سوف تحقق أهدافها فقط عندما تصل منفعتها للمواطن بشكل مباشر كمستفيد وشريك فيها أكثر من أن يكون عاملاً أو موظفاً، والشروط التي كانت توضع للمستثمر بأن يوظف عدد من العمال مثلاً كي يستثمر في منطقة ما يجب استبدالها الآن لتصبح شروطاً أكثر حكمة وفائدة على المدى البعيد حتى تُعيد التوازن الاقتصادي في المجتمع وتحقق التنمية المستدامة فيه وفق خطة إستراتيجية متكاملة تهدف لتعزيز كل القطاعات لبعضها البعض، كالقطاع الصناعي والزراعي والتجاري والسياحي والصحي والتعليمي والرياضي، الأمر الذي من شأنه خلق الترابط بين كل تلك القطاعات على المدى البعيد وبطريقة تساهم في إيجاد الأرضية الصلبة لاقتصاد قوي ومستدام.
فعند اتخاذ قرار إنشاء مصنع ما مثلاً، يمكن اشتراط عقد اتفاقية تعاون بينه وبين الجهات المعنية بالقطاع الزراعي، أو أية قطاعات إنتاجية أخرى، لدعمها وتعزيز قدراتها في تحضير المنتجات التي تُمثل المواد الخام للمصنع والمساهمة في خطط التطوير الخاصة بها، إضافة لعقد اتفاقية مع الجامعات لتدريب وتوظيف عدد من الخريجين سنوياً وتقديم منحة مجانية لطلاب متميزين في نفس المجال لتشجيعهم على العمل في المصنع بعد التخرج، وإنشاء مدرسة صناعية خاصة ومشروع إسكان أو المساهمة بشكل نسبي في الاستثمار في مشاريع من هذا النوع أو مشاريع أخرى كالمراكز الطبية والتجارية والنوادي الرياضية والترفيهية التي توفر خدماتها لموظفي المصانع بأسعار زهيدة كنوع من الدعم وتهدف للاستثمار الربحي الاعتيادي لغير الموظفين.
وقد تتنوع المجالات التي يمكن أن يساهم فيها المشروع الاستثماري بحسب طبيعة وحجم المشروع نفسه، بحيث تؤسس مثل تلك المساهمات لعلاقة تكاملية تبادلية مع المقومات المختلفة المحيطة به، ومن الممكن أن تصل إلى حد المشاركة في تأسيس وتطوير البنية التحتية والخدماتية كنوع من المساهمة حتى لو كان بشكل استثماري يعود بالنفع على أصحاب المشروع كمستثمرين، ولكنه بنفس الوقت يخفف من ثقل الأعباء على الجهات الرسمية المختصة ويساهم في تسريع عجلة النمو الاقتصادي ويؤسس لمبدأ الشراكة في البناء والإنشاء ويعمل على نشر مبدأ تحمل المسؤولية والمحافظة على، بل والمساهمة في تطوير، تلك البنية والخدمات أكثر من أي شيء آخر.
إن الفوائد المنتظرة من الحلول الاقتصادية ذات الطابع التكاملي التي تخلق الترابط بين القطاعات المختلفة في أركان المجتمع وتساهم في تعزيز كل منها للآخر لن تتوقف عند التأثير الإيجابي للأوضاع الاقتصادية وضمان استدامتها فقط، ولكنها سوف تمتد لتساهم بشكل لا يقبل الشك في تصحيح مسار ثقافة المجتمع ونظرته نحو الكثير من التخصصات المهنية المهملة والتي يُفترض أن تكون أساس بنية كل المجتمع، كما أنها سوف تعمل على تأسيس التكامل بين القطاعات المختلفة من جهة ونشر ثقافة التكامل والترابط الاجتماعي لرواد تلك القطاعات من جهة أخرى.