تقسيم مصادر القانون الدولي
لما كان الأساس الذي يقوم عليـه القانون الدولي في مرحلته الحاضرة هو الرضا العام للدول، أصبح من الأمور الطبيعية أن تتعدد مصادر القانون الدولي بتعدد وسائل التعبير عن الرضا. ومن المعلوم أن التعبير الإرادة إما أن يكون صريحًا، وإما أن يكون ضمنيًا. فالدول إما أن تعبر عن توافق إراداتها صراحة، ويكون هذا التعبير عن طريق إنشاء المعاهدات، وإما أن تعبر عنه ضمنًا، ويكون ذلك عن طريق العرف (1).
وتطبيقًا لذلك نصت المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على ما يأتي: “وظيفة المحكمة أن تفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقًا لأحكام القانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن:
- ا) الاتفاقات الدوليـة العـامة والخاصة التي تضع قواعد تقر بها الدول المتنازعة صراحة.
- ب) العرف الدولي المقبول بمثابة قانون كما دل عليه التواتر.
- ج) مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدينة.
- د) أحكام المحاكم ومذاهب كبـار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم، ويعتبر هذا أو ذاك مصدرًا احتياطيـًا لـقـواعد القانون.
وبالتالي فإن مصادر القانون الدولي – وفقًا لهذا النص – تنقسم إلى قسمين: مصادر القانون الدولي الأصلية وهي المعاهدات والعرف والمبادئ العـامة في النظم القانونية المختلفة. ومصادر القانون الدولي الاحتياطية أو مصادر استدلال وهي أحـكام القضاء وآراء الفقهاء.
المحتويات
أولا: المصادر الأصلية للقانون الدولي
وهي المعاهدات والعرف والمبادئ العـامة في النظم القانونية المختلفة.
وفيما يلي شرحًا مفصلا لكل منه:
المعاهدات TRAITES
تعد المعاهدات المصدر المباشر الأول لإنشاء قواعد قانونيـة دولية. وهي في دائرة النظام الدولي بمثابة التشريع في دائرة النظام الداخلي. فالدول عندما تتراضى فيما بينها على إنشاء معاهدة معينة تقوم بالوظيفة عينها التي يقوم بها المشرع داخل الدولة.
والمعاهدة تنعقد بين دولتين أو أكثر. فإن كان أطرافها عديدين سميت بالمعاهدة الجماعية traité collectif. وان كان أطرافها دولتين فقط سميت بالمعاهدة الثنائية traité bilateral.
والقوة الإلزامية للمعاهدة في الحالين مقصورة على الدول الأطراف فيها، ولا تتعداهم إلى الغير. غير أنه ينص عادة في المعاهدات الجماعية على إباحة انضمام الدول غير الأطراف فيها إليها. وذلك لتيسير امتداد دائرة تطبيق أحكامها في الحالات التي تدعو إلى ذلك. كما ينص فيها عادة على حق انسحاب الدول الأطراف فيها من المعاهدة الجماعية بإرادتها الفردية. وبهذا تستطيع الدول – إذا تحققت شروط معينة واتبعت إجراءات معينة – أن تكون طرفًا في المعاهدة الجماعية أو أن تنهي ارتباطها بأحكامها. أما المعاهدات الثنائية فلا تتضمن مثل هذه الأحكام عادة لأنه قد لوحظ في إبرامها أن تقوم أحكامها بين دولتين محددتين intuitu personae.
ودخول المعاهدة في دور التنفيـذ وانقضاؤها يخضعان خضوعًا تامًا لإرادة أطرافها. وكذلك الأمر في كل ما يتعلق بما يرد فيها من أحكام.
وليس للمعاهدات موضوع معين لا تتعداه إلى غيره، فقد تتناول المعاهدة بالتنظيم موضوعًا قانونيـًا فقط، فتكون عندئذ معاهدة شارعة. وقد تتناول بالتنظيم مسائل سياسية اقتصادية أو اجتماعية أو تجـارية أو غير ذلك من المسائل. كما قد تتناول بالتنظيم خليطًا من هذه المسائل.
وستكون المعاهدة محلا للشرح التفصيلي في موضع آخر.
العُرف LA COUTUME
يعد العُرف المصدر المباشر الثاني لإنشـاء قواعد قانونيـة دولية. وقد ذهب فريق من العلماء إلى أنه يعد أهم مصادر القانون الدولي وأكثرها إنشاء لأحكام هذا الفرع من القانون، وإلى أنه يمتـاز على المعاهدات بأن قواعده لها وصف العمومية بمعنى أنها ملزمة لمجموعة الدول المتحضرة، في حين أن القواعد والأحكام التي توجدها المعاهدات أو القانون الاتفاقي قلما تكتسب هذا الوصف، لأن قوتها الإلزاميـة مقصـورة على عاقديها، لا تتعداهم إلى غيرهم. يضاف إلى ذلك أن المعاهدات الجماعية التي تنشئ أحكامًا ملزمة لمجموعة كبيرة من الدول قليلة العدد، تنفر الدول عادة من الإقبال على عقدها لرغبتها في الاحتفاظ بحرية التصرف في المستقبل. ورأي هذا الفريق من العلماء يؤيده الوضع الحاضر للقانون الدولي. ذلك أن الغالبية العظمى للقواعد والأحكام القانونية التي تنتظم علاقات الدول وقت السلم ووقت الحرب والحياد، تقوم على العرف الذي تواتر بين الدول، واستقر عليه العمل بينها (2).
طبيعة الحكم العرفي
والعرف الدولي الملزم مجموعة من الأحكام القانونية نشأت من تكرار التزام الدول لها في تصرفاتها مع غيرها في حالات معينة، بوصفها قواعد ثبت لها في اعتقاد غالبية الدول المتحضرة وصف الإلزام القانوني. وغنى عن الذكر أن الأحكام الدولية العرفية تقوم على السوابق، غير أنه لا يشترط فيها التعدد الكثير، بل نه يكفي – في رأي البعض – التكرار المقرون بعدم العدول لكي يترتب الحكم العرفي ويستقر. ويعلل هذا الفريق من العلماء رأيه بأن عدد أشخاص القانون الدولي محدود، والعلاقات التي تقوم بينهم تختلف عن علاقات الأفراد بسعة التنوع وسرعة التطور، بحيث أن يصعب أن تتعدد الحالة الواحدة التي صدر في شأنها التصرف المعين مرات عديدة، وذلك بعكس ما يحدث عادة في العرف الداخلي.
ويضاف إلى ذلك وفرة عدد أشخاص القانون الداخلي ودوام الحاجة إلى ممارسة بعضهم للتصرفات التي يمارسها البعض الآخر، يجعل تعدد التزام الحكم المعين في الحالة المعينة ومن ثم تكوين القاعدة العرفية أمرًا يسيرًا، مترتبًا على طبيعة الأشياء. غير أن الرأي الصواب هو الذي يقرر أن التعدد أو التكرار في السوابق الدولية ليس لهما منفردين قوة إنشاء الحكم العرفي الدولي، لأن العنصر الأساسي في إنشائه ليس التعدد أو التكرار بقدر ما هو في ثبوت الاعتقاد بين الدول بلزوم اتبـاعه كلما تجددت الحالة التي اتبع فيها من قبل (3).
ومن طبيعة الحكم العرفي أن يكون شائعًا يميل إلى التطور الدائم، وأن يعوزه الجمود والثبات اللذان تتميز بهما الأحكام الاتفاقية. والشيوع والتطور في الحكم العرفي لا يخلوان من نفع، إذ يجعلان القاعدة القانونية مسايرة لعلاقات الدول في تطورها، متمشـية مع تغير الظروف والملابسات، في حين أن أحـكام المعـاهدات – بما لها من ثبات وتحديد وجمود – كثيرًا ما تعوق نمو العلاقات بين الدول، وتقضي على استمرار قيام التفاهم بينها في بعض الأحيان.
الأساس الذي يكسب الحكم العرفي وصف الإلزام
وقد تفرق الرأي في الفقه فيما يتعلق بتعيين الأساس الذي يكسب الحكم العرفي وصف الإلزام (4).
الرأي الأول
فذهب فريق من العلماء إلى أن الحكم العرفي يستمد قوته من رضا الدول بالخضوع له في تصرفاتها، شأنه في ذلك شأن المعاهدات. وإن كان ثمة فارق بين الأساس الإلزامي لهذين المصدرين فهو أن رضا الدول صريح في حالة المعاهدات، في حين أنه ضمني أو مفروض في حالة العرف. والدليل على وجود الرضا الضمني للدول هو إقبالها على التصرف وفقًا للقاعدة العرفية، ومبـادرة الدول التي صـدر التصرف في مواجهتها إلى قبوله من غير أن تبدي احتجاجًا عليه أو مناقضة له، مما يؤيد أن استقرار الحكم المستمد من القاعدة العرفية إنما يقوم على الرضا الضمني أو المفروض. وليس هذا الفـارق بذي أثر، لأن الرضا الضمني يتساوى مع الرضـا الصريح من حيث قوة الإلزام. ويقرر هذا الرأي أيضًا أن الفارق الحقيقي بين أحكام المعاهدات وأحكام العرف هو أن الأحكام الأولى ترتضيها الدول المتعاقدة لتنظم علاقاتها المستقبلة. في حين أن الأحكام الثانية تنتظم علاقات الدول في الحاضر والمستقبل.
الرأي الثاني
ويذهب فريق آخر من العلماء إلى أن الأساس الذي يقوم عليه الحكم العرفي كأحد مصادر القانون الدولي ليس رضا الدول الضمني بالخضوع له، بدليل أن الحكم المستمد من العرف يعد حكمًا ملزمًا، حتى بالنسبة للدول التي نشأت بعد نشونه واستقراره، تلك الدول التي لا يمكن أن يُنسب لها الرضا بالخضوع للحكم وقت نشوئه. ويصور هذا الرأي العرف بأنه أحكام رتبتها حكمة الأجيال، وشاع الاعتقاد لدى أعضاء الجماعة الدولية بوجوب الإذعان لها والتصرف وفقًا لحكمها، وذلك لأن تنظيم حياة العائلة الدولية والمحافظة على بقائها يتطلبان ذلك الإذعان والخضوع. وعلى ذلك إن نشأت دول جديدة بعد نشوء الحكم المستمد من العرف واستقراره، فعليها أن تلتزم باحترامه بمجرد قبولها عضوًا في الأسرة الدولية (5). وقد ذكر أحد قضاة محكمة العدل، في الرأي الذي ألحقه بحكم المحكمة في قضية حق الالتجاء السياسي في 20 من نوفمبر سنة 1950، أن “ما من دولة تستطيع أن تتمرد على حكم عرفي ثبت استقراره”.
شروط وجود العرف
ويشترط لوجود العرف أن يجتمع في حكمه عنصران: عنصر مادي، وآخر معنوي أو نفسي. فأما العنصر المادي فهو صدور تصرف معين في حالة معينة. ولا يشترط أن يكون التصرف إيجابيًا، بل أن التصرف السلبي أو الامتناع قد يكفي. وقد أيدت ذلك المحكمة الدائمة للعدل الدولي في حكمها الصادر في 7 من سبتمبر سنة 1927 (6)، إذ قررت فيه أن العرف قد يترتب على أساس الامتناع عن اتخاذ تصرف في حالة معينة، متى اقترن هذا الامتناع بالعنصر المعنوي (7). وقد كان الأمر قبل صدور الحكم محلا للخلاف في الفقه، إذ كان فريق من العلماء يشترط في التصرف أن يكون إيجابيًا، ويرفض اعتماد التصرف السلبي كعنصر من عناصر إنشاء الحكم العرفي.
ويشترط في التصرف المادي أن يصادف القبول من الدولة أو الدول التي صدر في مواجهتها، وأن يستمر قبول الدول له إذا تكررت ممارسته في الحالات الجديدة المماثلة للحالة الأولى. فإذا لم يستمر هذا القبول، أو إذا عدلت الدول عنه بعد ذلك، زال العنصر المادي.
ويشترط في العرف أيضًا أن يكون عامًا من حيث التطبيق، بمعنى أن تمارسه الدول على وجه العموم على الحالات المماثلة التي تحدث في المستقبل. وليس معنى هذه العمومية أن جميع الدول تمارس هذا التصرف في الحالات المماثلة، بل يكفي أن تكون ممارسة التصرف صـادرة من أغلبية أعضاء الجماعة الدولية، لأن العمومية ليس معناها الإجماع. ولذلك يقسم الفقه الأحكام العرفية قسمين: العرف العام، ويتضمن الأحكام التي تواترت أغلبية الدول على التصرف وفقًا لها. والعرف الخاص، ويتضمن الأحكام التي تتبعها الدول التي تتقارب حضارتها، أو التي تشترك في وحدة الجنس، أو التي تضمها مؤسسات إقليمية، ومثالها الدول الأمريكية الجنوبية (8)، ودول أمريكا الوسطى، والدول السلافية، والدول العربية، … إلخ.
غير أن التصرف المادي لا يكفي وحده لإنشاء الحكم العرفي، بل يلزم لذلك أن يقترن التصرف المادي بذلك العنصر المعنوي الذي يفيد أن ممارسة هذا التصرف في الحالات المماثلة يفرضها الاعتقاد بضرورته من حيث القانون. وهذا الاعتقاد لدى أشخاص القانون الدولي هو الركن الأساسي في إنشاء الحكم العرفي opinio juris. وقد ذكرت ذلك الشرط المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فقررت أن المحكمة تطبق “العرف الدولي المقبول بمثابة قانون كما دل عليه التواتر”، مما يؤكد أن العنصر المعنوي له الأولوية على التكرار المادي. ووجود هذا العنصر المعنوي هو الذي يميز الحكم المستمد من العرف من الأحكام الأخرى غير الملزمة التي تتبعها الدول في بعض الأحيان، نظرًا لملابسات الحاجة الوقتية، أو لتيسير معاملاتها مع غيرها الدول. فوجود هذا العنصر هو الذي يميز أحـكام العرف من أحكام العادة، وهو الذي يميزها من أحكام المجاملات الدولية أو الأخلاق الدولية.
ولما كان هذا العنصر معنويًا، فليس من اليسير التحقق من وجوده إلا عن طريق ذيوع الإحساس به (9). لذلك تعمد الدول التي تمارس تصرفًا معينًا، أو التي يصدر في مواجهتها تصرف معين ولا ترغب في ترتيب حكم عرفي عليها، إلى طرق مختلفة للإعراب عن فقدان الاعتقاد لديها بالضرورة القانونية لهذا التصرف، ومن بين هذه الطرق الاحتجاج على التصرف، أو قبوله مع إبداء التحفظات، أو قبوله مع إبداء رأي الدولة في أن هذا القبول لا يعد سابقة. وقد تلجأ الدول إلى التدخل في العلاقات القائمة بين دولتين لمنع إنشاء الحكم العرفي. لذلك كله تعد مهمة القضاء الدولي والفقه في تعيين أحكام العرف مهمة معقدة تتطلب كثيرًا من الجهد والدقة والحذر، للتحقق من وجود العنصرين المادي والمعنوي، اللذين لا غنى عن وجودهما معًا لإثبات الحكم العرفي.
ويسود الفقه الدولي رأيان متناقضان فيما يتعلق بتعيين العوامل التي تشترك في تكوين العنصرين المادي والمعنوي اللازمين لإنشاء الحكم العرفي. فقد ذهب فريق من علماء الألمان (10) إلى القول بأن التصرفات التي تشارك في تكوين العرف هي التي تصدر عن الهيئات صاحبة الاختصاص الدولي وحدها، أي الهيئات الحكومية دون غيرها. وهذا الرأي – كما هو ظاهر – يحدد لعـوامل تكوين العرف نطاقًا ضيقًا، لا يشمل إلا التصرفات الصادرة عن السلطات التنفيذية في الدول، ولا يتضمن تلك التصرفات الصادرة عن السلطات التشريعية أو القضائية الداخلية. ويقابل هذا الرأي مذهب آخر، يحدد لعوامل تكوين العرف نطاقًا يتسع لجميع التصرفات، ويشمل حتى التصرفات التي تصدر عن الأفراد بشرط توافر العنصر المعنوي لها (11).
وليس ما يؤيد أحد هذين الرأيين في العمل، وذلك لأن العمل المتواتر بين الدول يفيد أن العرف قد يترتب على أساس التصرفات التي تصدر عن أية هيئة قانونية لها اختصاص داخلي أو دولي، سواء أكانت هذه الهيئات حكومية أم دولية.
فمن التصرفات التي تصدر عن هيئات حكومية داخلية، والتي تعد من عوامل تكوين الحكم العرفي، التصرفات التالية:
- المراسلات الدبلوماسية: وهي تلك المراسلات التي تصدر عن الهيئة الحكومية التي تشرف على العلاقات الخارجية للدولة. ومنها يمكن تحديد آراء الدولة في مختلف الشئون التي تقوم بينها وبين غيرها من الدول. وقد عنيت بعض الهيئات العلمية بجمع هذه المراسلات ونشرها، لما تتضمنه من وثائق ومعلومات لها أهمية بالغة فيما يتعلق بتحـديد العرف وإثبات حكمه (12).
- التعليمات الحكومية والوزارية التي تصـدر للسفراء والوزراء المفوضين والقناصل: وتتضمن وجهة نظر الدولة في مختلف الشئون.
- التعليمات والأوامر التي تصدر عن القيادة العامة وقت الحروب، وذلك لما لها من قوة في الإثبات بالنسبة لتحديد القواعد التي تتبع في الحروب البرية والبحرية والجوية.
- القوانين التي تصدر عن السلطة التشريعية داخل الدولة: فقد تكون بعض هذه القوانين من أهم العوامل المنشئة للعرف الدولي، إذا توافر لها وصف العمومية في الدول الأخرى، بمعنى أن يصدر قانون في دولة معينة يتضمن أحكاما معينة، ثم تصدر في الدول الأخرى قوانين تتضمن أحكامًا مماثلة أو مطابقة لأحكام القانون الأول. ومثال ذلك القوانين الخاصـة بمعاملة الأجانب، وتعيين ما يستمتعون به من حقوق وما عليهم أداؤه من واجبات داخل الدولة التي يقيمون فيها.
- الأحكام التي تصدرها هيئات قضائية داخلية، لأن لهذه قوة إثبات وجود العنصر المعنوي لدى الدولة.
وقد يقوم الحكم العرفي على أساس التصرفات التي تصدر عن الهيئات الدولية، كمكتب العمل الدولي ومكتب الصحة الدولي، أو التصرفات التي تصدر عن المؤسسات الدولية، كمجلس عصبة الأمم أو الجمعية العام لعصبة الأمم السابقين أو مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو مجلس الوصاية.
وقد تكون المعاهدات الجماعية أو التي تعقد بين بعض الدول مظهرًا من مظاهر الكشف عن بعض الأحكام العرفية أو وسيلة من وسائل تكوين الحكم العرفي، بمعنى أن تتفق بعض الدول على تسجيل أحكام معينة في معاهدة معينة فلا تلبث الدول الأخرى غير الأطراف في المعاهدة أن تتبع هذه الأحكام في علاقاتها المتبادلة. ومثال ذلك ما حدث في مؤتمر فيينا المنعقد سنة 1815، إذ اتفقت الدول على اتباع نظام معين في ترتيب السفراء، فلم يلبث هذا النظام أن ساد جميع الدول. وكذلك الأمر فيما يتعلق ببعض قواعد الحيـاد التي تضمنها تصريح باريس الصادر في 16 من أبريل سنة 1856، والقواعد التي تضمنها تصريح لندن الصادر في 26 من فبراير سنة 1909 (تحديد الميـاه الإقليمية بثلاثة أميال بحرية)، … إلخ.
ومن المتفق عليه أيضًا أن الأحكام التي تصدرها هيئات التحكيم الدولية، والأحكام التي تصدرها محكمة العدل الدولية، تصلح أساسًا لتكوين الأحكام العرفية، على الرغم من أن قوتها لا تتعدى أطراف النزاع إلى غيرهم من الدول (13).
مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحضرة
نصت الفقرة (ج) من المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحضرة، ضمن أحكام القانون الدولي التي تطبقها المحكمة للفصل فيما يعرض عليها من المنازعات الدولية. ويوجد ثمة ارتباط بين حكم هذه الفقرة والحكم الوارد في المادة التاسعة من النظام الأساسي للمحكمة، ذلك الحكم الذي يقضي بأنه عند تأليف هيئة قضاة المحكمة “ينبغي للهيئة في جملتها أن يكفل تأليفها تمثيل المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم”.
ومفاد الفقرة (ج) من المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، أنه إذا عرض على المحكمة نزاع ما ولم يوجد في المعاهدات أو في العرف نص يحكم موضوع هذا النزاع، فعلى المحكمة أن تطبق مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحضرة، أي المبادئ القانونية العامة المقررة في النظم القانونية الرئيسية في العالم، التي يكفل تمثيلها في محكمة العدل قضاتها المنتخبون. والأصل في المبادئ العامة للقانون أن تسود دائرة القانون الداخلي، ولذلك يبدو غريبًا أن تمتد دائرة تطبيقها إلى حكم العلاقات بين الدول. غير أنه يمكن القول بأن هـذه المبادئ العامة تنطبق في الدائرة الدولية في حالة فقدان كل قاعدة قانونية دولية منصوص عليها في المعاهدات أو يقضي بها العرف. فهي بمثابة قواعد تقضي بها العدالة عند الأمم المتحضرة (14).
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن محكمة العـدل لم تلجأ إلى تطبيق مبـادئ القانون العامة واعتبارها بالتالي مصدرًا من مصادر القانون الدولي إلا في حدود ضيقة. ومثال ذلك ما قضت به المحكمة الدائمة للعدل الدولي في حكمها الصادر في 26 من يوليو سنة 1927 أنه يترتب على مخالفة الالتزام واجب التعويض، وكذلك في الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في قضية القروض النرويجية الصادر في 6 يوليو سنة 1957، والحكم الذي أصدرته المحكمة ذاتها في النزاع الخاص بحق المرور، بين الهند والبرتغال في 36 من نوفمبر سنة 1957 (15).
ثانيًا: المصادر الاستدلالية للقانون الدولي
المصادر الاحتياطية أو المصادر الاستدلالية للقانون الدولي وهي أحـكام القضاء وآراء الفقهاء. وفيما يلي شرحًا مفصلا لكل منها:
أحكام المحاكم LA JURISPRUDENCE
تعد أحكام المحاكم الدولية وأحكام المحاكم الوطنية المصدر الاستدلالي الأول للقانون الدولي. وقد سبق القول أن أحكام القضاء الدولي والداخلي تعد من عوامل تكوين العرف، بوصفها من الوسائل التي تدل على وجود العنصر المعنوي اللازم لتكوين الحكم المستمد من العرف.
وإلى جانب ذلك تعد أحكام القضاء من العوامل التي يأنس إليها القضاة والخصوم ويسترشدون بها للوصول إلى معرفة قاعدة قانونية دولية لم يرد لها ذكر في المعاهدات أو في العرف، أو الوصول إلى استنباطها. فهي سلسلة من القرارات الحاسمة يصدرها أشخاص منزهون عن الغرض في شأن تطبيق أحكام القانون في شتى الخصومات. ومن شأن هذه الأحكام أن تساهم مساهمة جدية في تكوين القانون غير المكتوب، إلى أن يتم تدوين أحكام القانون الدولي العام (16).
الفقه LA DOCTRINE
ويضاف إلى المصدر الاستدلالي السابق مصـدر ثانِ من مصادر القانون الدولي، وهو مذاهب كبار المؤلفين في القانون الدولي العام في مختلف الأمم. وقد ذكرت هذا المصـدر الفقرة (د) من المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. ولا شك في أن الفقـه قد قام بدور هام في الماضي فيما يتعلق بالإفصـاح عن قواعد القانون الدولي العام، وبيان ما يجب أن ينتظم علاقات الدول من أحكام، وتفسير مختلف القواعد القانونية الدولية.
ولا ينكر أحد أن الفقه سـاهم بقسط موفور في بيـان قواعد العرف وتعيينها. وقد كانت لمذاهب كبار المؤلفين وأقوالهم قوة أدبية كبيرة تستد إليها الدول في تحديد علاقاتها المتبادلة في الماضي. وكانت آراء “جروسيوس” و”فاتيل” وأمثالهما بمثابة قانون مكتوب. ولكن منـذ تطور القانون الدولي نحو النمو والتدوين فقدت مذاهب كبار المؤلفين كثيرًا من أهميتها الأولى، وأصبحت من العوامل التي يسترشد بها في التفسير والتأويل والبيان ونشر المعرفة. ولا يمكن أن تعد مذاهب الفقهاء في الوقت الحاضر من مصادر إنتاج القواعد القانونية الدولية، شأنها في ذلك شأن غيرها من مصادر القانون الدولي الاستدلالية أو المصادر الاحتياطية.
ويلاحظ في الوقت الحاضر أن كثيرًا من علماء الدول المختلفة ينحون في مؤلفاتهم وأبحاثهم نحوًا متحيزًا، فهم يبسطون وجهات النظر التي يقتضيها الدفاع عن المصالح الوطنية أو مصالح الشركات الكبرى التي توكلهم للحضور في الاجتماعات التي تعقدها المؤسسات العلمية المختلفة بقصد التوصل إلى إصدار قرارات تؤيد فيما تنطوي عليه من مبادئ مصـالح هذه الشركات أو المصالح الوطنية. ويلاحظ أيضًا أن بعض الدول توكل كبار العلماء في الدول الأخرى لإصدار مؤلفات في مسائل ومشاكل خاصة بها للدفاع عن وجهات نظرها تحت ستار نشر العلم. ولا شك أن هذا كله يشكل نوعًا من الأخطار على العلم المجرد من التحيز والميل، ويزيف الصورة الحقيقية لقواعد القانون الدولي.
الهوامش
- (1) ومع ذلك فقد قام خلاف في الفقه حول التمييز بين المصدر الحقيقي الذي تنبع منه قواعد القانون الدولي، وبين الشكل الذي تبدو فيه قواعد هذا القانون. إلا أن هذا الخلاف نظري بحت ولا أهمية له في القانون. انظر مؤلف “أوبنهايم”، السابق الإشارة إليه، ص 23 وما بعدها. وهو يميز بين المصدر والسبب. انظر كذلك “شارل روسو”، المؤلف السابق الإشارة إليه، ص 106 وما بعدها.
- (2) انظر مؤلف Gianni وعنوانه: La coutume en droit international, 1931.
- (3) وللدلالة على ذلك يصح ذكر المثلين التاليين:
- الأول: حدث في سنة 1708 أن سفير بطرس الأكبر قيصر روسيا في لندن استدان بعض المبالغ المالية وتباطأ في تسديدها، فقبض عليه بناء على شكوى الدائنين الذين أقاموا عليه الدعوى، فاحتج قيصر روسيا وطالب بالإفراج عنه في الحال وتقديم الاعتذار الواجب، وشاركه في هذا الطلب الملكة “آن” الإنجليزية إلى استصدار قانون خاص عرف باسمها ” قانون آن رقم 12″ يتضمن إلغاء الدعوى وفرض عقوبات شديدة على من يخالف في المستقبل ما للسفراء من حصانات، وقد وصف القضاء الإنجليزي في مناسبة أخرى هذا القانون بأنه كاشف لحقوق السفراء وليس منشئًا لها، مما يدل على أن السابقة الأولى بمفردها كشفت حكمًا عرفيًا لاقترانها بالعنصر المعنوي، وهو الشعور بالإلزام القانوني.
- الثاني: وقد حدث أيضًا في أثناء الحرب الأهلية الأمريكية أن طرادة حربية أمريكية أوقفت سفينة إنجليزية كانت تنتقل بين ميناءين محايدين وذلك للقبض على اثنين من مندوبي الولايات الأمريكية الحربية، فاحتجت بريطانيا على ذلك، وشاركتها في الاحتجاج كل من فرنسا وبروسيا والنمسا، بدعوى أن هذا التصرف يُعد اعتداء على حقوق الدول المحايدة. فأفرجت الولايات المتحدة عن المقبوض عليهم وقررت أن قالد المركب الحربي قد تصرف من غير استئذان حكومته. وبذلك استقر حكم عرفي يقضي بحصانة المسافرين على مركب محايد ينتقل بين الموانئ المحايدة، وكان السبب في استقراره ثبوت الاعتقاد لدى الدول بوجوب الخضوع له.
- (4) راجع مؤلف “أوبنهايم” السابق الإشارة إليه، الجزء الأول، ص 24 وما بعدها. وكذلك “شارل روسو” المؤلف السابق الإشارة إليه، ص 827 وما بعدها. ومؤلف Ganni السابق الإشارة إليه، ص 15 وما يعدها. ومؤلف Rivier وعنوانه Principe du droit des gens الجزء الأول، ص 26.
- (5) راجع مؤلف “شارل روسو” السابق الإشارة إليه، ص 830 وما بعدها. وكذلك حكم محكمة العدل الدولية الدائمة في قضية Lotus بتاريخ 7 سبتمبر 1927، مطبوعات المحكمة رقم 22 ص 16. وكذلك مقال Caroglieri في مجموعة دروس مجمع لاهاي للقانون الدولي سنة 1929، الجزء الأول ص 337.
- (6) انظر : مطبوعات المحكمة، Serie AB ، رقم 22 ص 16.
- (7) راجع مطبوعات المحكمة، Serie A. No 10.
- (8) استندت جمهورية كولومبيا في خلافها مع جمهورية البيرو على حق الالتجـاء السياسي، وهو الخلاف الذي أصدرت فيه محكمة العدل الدولية حكمها في 20 نوفمبر 1950، على أساس “أحكام القانون الدولي الأمريكي” بوصف أن أحكام هذا القانون، أحكام مستمدة من العرف المستقر عليه بين الدول الأمريكية اللاتينية. انظر مجموعة أحكام المحكمة سنة 1950، ص 266.
- (9) انظر الحكم المخالف الذي صدر عن القضاة “هاکورت” و”عبد الحميد بدوى” و “کارنیبرو” و “راو” في قضية رعايا أمريكا في مراكش في 17-8-1952وقد جاء فيه: “Usage and sufferance are only different names for agreement by prolonged conduct…. as we have shown, usage has been continuously at work, in varying measure, during a period of one hundred years, if not longer…!”. انظر موسوعة أحكام القضاء الدولي، طبعة 1961، ص 5 و6.
- (10) راجع مؤلف “شتروب” وعنوانه “عناصر القانون الدولي العام”، باريس 1927، ص 12 وما بعدها. وكذلك محاضراته في أكاديمية لاهاي سنة 1934، الجزء الأول من المجموعة، ص 213 وما بعدها.
- (11) راجع “جورج سل”، الوجيز في القانون الدولي، الجزء الثاني، ص 306 وما بعدها.
- (12) انظر في هذا الشأن مجموعة الأستاذ Bruno وعنوانها Fontes juris gentium طبعة برلين سنة 1931. وكذلك مجموعة Mamming الأمريكي وعنوانها Diplomatic correspondence of the United States وهي تضم تسعة أجزاء. ومطبوعة بواشنجمن سنة 1932.
- (13) راجع “شارل روسو” المؤلف السابق، ص 845 وما بعدها. وقد جاء بالرأي الإفتائي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 28 من مايو 1951 في خصوص اتفاقية “إبادة الجنس ما يلي: “Les principes qui sont à la base de la Convention sont des principes reconnus par les nations civilisées comme obligeant les Etats même en dehors de tout lien conventionnel”. راجع موسوعة أحكام القضاء الدولي طبعة 1961، ص 7.
- (14) انظر في شأن المبادئ العامة التي أقرتها الأمم المتمدينة مؤلف “لوتر باخت”، ص 215 وما بعدها. Lauterpacht: Private law sources and analogies of international law, London, 1927.
- (15) مطبوعات المحكمة، Series A, No 9. وكذلك موسوعة أحكام القضاء الدولي، طبعة سنة 1961، ص 8.
- (16) انظر: Lauterpacht: The Development of International Law by the Permanent Court of International Justice, 1934.
المراجع
- كتاب القانون الدولي العام، تأليف الدكتور حامد سلطان، أستاذ ورئيبس قسم القانون الدولي العام، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، يناير 1965.