نحو التطوير الاستراتيجي لمنظومة الأمن – نظريات الإدارة الأمنية الإستراتيجية
(6) قوانين حماية معلومات التسويق
يمكن القول بدون مبالغة أنه بالرغم من كل التقدم والتطور التكنولوجي الذي وصلت إليه معظم المجتمعات العربية في شتى المجالات، وبخاصة في المجال التجاري، إلاّ أن هذا التطور ساهم في زعزعة أمن المواطن ربما بشكل أكبر من أن يساهم في تعزيز أمنه وحمايته، وتفاصيل تلك المسألة، المتناقضة، تكمن على الأغلب في أسرار كثيرة تتعلق بمسألة المعلومات وطرق تداولها وتدفقها، وأكثر ما ساهم بهذا الأمر أساليب التسويق الحديثة والتي تهدف في مجملها لتوفير الوقت والجهد التسويقي الذي تبذله الشركات للوصول إلى فئات وشرائح محددة من الزبائن بطرق مبتكرة تعتمد على التكنولوجيا والمعلومات الخام التي تتدفق يومياً عبر قنوات المبيعات والتسويق في الشركات والمؤسسات التجارية بكافة أنواعها.
ففي دول الغرب، تنتشر ثقافة التسويق الحديثة، الهادفة لتوفير الوقت والجهد لطرفي المعادلة التجارية، بشكل كبير لدرجة أنه يكفي لأحد المواطنين هناك أن يقوم بشراء علبة حليب مخصصة للأطفال الرضع مثلاً من أحد المتاجر، التي تعتمد على التكنولوجيا في عمليات البيع، لكي يفاجأ بعد عدة أيام، وربما ساعات، بموظف تسويق من شركة متخصصة في بيع ألعاب الأطفال يتصل به أو حتى يدق باب منزله ويطلب منه إلقاء نظرة على بعض ألعاب الأطفال التي بحوذته ويقوم بتسويقها لصالح الشركة التي يعمل فيها، وبطبيعة الحال اعتمدت تلك الشركة على المعلومات التي حصلت عليها من المتجر، سواء بطرق قانونية موثقة يوافق عليها الزبون أو بطرق ملتوية غير مشروعة من خلال موظف ما يقوم بتمرير تلك المعلومات لأطراف أخرى بمقابل مادي.
والغريب في تلك المسألة، المعقدة، أن المواطن في دول الغرب قد يجدها بسيطة وقد لا يُعير أي اهتمام لتفاصيلها وطريقة تدفق المعلومات التي أدت لها، وربما لا تلفت نظره أصلاً ويعتبرها مجرد صدفة، فالأمر المهم بالنسبة له أن الألعاب وصلت لباب منزله ووفرت عليه الوقت والجهد الذي قد يستنفذه في البحث عنها، بخاصة إذا كانت نوعية تلك الألعاب تتوافق مع المنتجات التي يشتريها من المتجر الأول، سواء من حيث الجودة أو الماركة العالمية التي يحبذها، كما أن شركة الألعاب وفرت أيضاً الوقت والجهد اللازم للبحث عن نوعية مثل هذا الزبون والوصول إليه وفق المعلومات التي حصلت عليها من المتجر، والتي غالباً ما يتم تحليلها من أجل التنبؤ بمدى إقباله على شراء منتجاتهم ومن ثم إرسال موظف التسويق إلى منزله والمخاطرة بتحمل تكاليف التوصيل وفق تلك التنبؤات إذا كانت نسبتها مرتفعة، بل والأغرب من ذلك أنها يمكن أن تتحمل تكاليف إرسال موظف تسويق آخر بعد خمس سنوات لعرض منتج جديد يناسب سن الطفل في ذلك الوقت!
ولكن الأكثر غرابة، وفظاعة، في المجتمع العربي، أن كل تلك الأساليب التسويقية الحديثة، التي ربما تكون مشروعة اجتماعياً وتجارياً في كثير من الأحيان وتؤثر إيجاباً على حركة السوق وترفع من حيوية النظام التجاري والاقتصادي في المجتمع، قد تم استغلالها بشكل سلبي من منظور أمني ربما بشكل أكبر من استغلالها لتوفير الوقت والجهد لطرفي المعادلة التجارية، وذلك لأنها تساهم أحياناً في وصول المعلومات لأطراف ثالثة دخيلة اعترضت طريق تدفقها في القنوات التسويقية، بحيث تحولت المعلومات الخاصة بالزبائن، والتي غالباً ما تعكس الكثير من الحقائق، إلى معلومات أساسية يمكن الاعتماد عليها من قبل تلك الأطراف في وضع الخطط المناسبة لارتكاب الجرائم بكافة أشكالها، بدلاً من أن تساعد الشركات التجارية في وضع خطط التسويق، ويصبح المشهد العام وكأنه عملية تسويق للجريمة المنظمة بدلاً من تسويق المنتجات!
إن الإدارة الأمنية الإستراتيجية في هذا العصر، المعلوماتي، تستلزم بشكل أساسي تطوير القوانين المتخصصة بحماية معلومات التسويق وضبط قنوات تدفقها، بحيث تعمل على وقف تدفقها في الاتجاهات غير المشروعة وغير المرغوبة أمنياً، وذلك من خلال التوثيق الرسمي لتلك التدفقات وجعلها مشروعة وقانونية أولاً وضمن عمليات التسويق في قنوات محددة يوافق عليها الزبون خطياً، وتجريم خروجها عن المسموح به والمتفق عليه، بل والأكثر من ذلك يتطلب الأمر تجريم الموظفين الذين يتداولونها خارج إطار شركاتهم، أو حتى الإدارات والأقسام الخاصة بالمعلومات فيها، وإلزام الشركات بوضع آليات للتوثيق والتتبع الإداري المفصّل لكل الموظفين الذين يطلعون عليها أو يستعلمون فيها عن بيانات محددة، حتى وإن كان ذلك ضمن سياق أعمالهم الإدارية الاعتيادية، بحيث يساهم هذا الأمر في تعزيز القدرة المعرفية للتحريات التي من شأنها أن تكشف كل من يمكن أن يتورط في تسريبها للأطراف التي تستخدمها في أعمال إجرامية، سواء كان بقصد أو بدون قصد.