المحتويات
القانون المقارن والمنهج المقارن
يحتاج الباحث في سبيل التوصل إلى نتائج مفيدة فيما يقدمه من أعمال علمية إلى حسن اختيار وتوظيف المنهج الذي يتناسب وطبيعة الموضوع المعالج. وتتعدد المناهج المستخدمة في الدراسات القانونية على غرار التعدد المنهجي الموجود في بقية العلوم الاجتماعية. وقد حاولنا في هذه الورقة تسليط الضوء على أساليب أبحاث القانون المقارن والمنهج المقارن، باعتباره أحد المناهج العقلية التي ترتكز عليها عديد البحوث القانونية، وهذا بالنظر إلى الغموض الذي يكتنفه عند الكثير من الباحثين، حيث عادة ما يتم الخلط بين أساليب الدراسة المقارنة والمنهج المقارن. وفي أحيان أخرى نجد سوء توظيف للمنهج المقارن وسوء اختيار لعينات المقارنة.
بناء على ما سبق سوف نحاول الإجابة على تساؤل جوهري في هذا الجزء من الدراسة مفاده: كيف يتم توظيف المنهج المقارن في البحوث القانونية؟ ويتفرع عن هذا السؤال مجموعة من الأسئلة الفرعية، تدور في موضوعها حول نقاط ثلاث هي:
- ما المقصود بالمنهج المقارن؟
- ما الفرق بين المقارنة المنهجية وأساليب المقارنة؟
- وما هي أهم مراحل المقارنة المنهجية؟
وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، حاولنا تقسيم موضوعنا إلى مبحثين، تناولنا في المبحث الأول ماهية المنهج المقارن وأساليبه، أما المبحث الثاني فخصصناه لمتطلبات المقارنة المنهجية ومراحلها.
ماهية المنهج المقارن
تعتبر المقارنة البسيطة أسلوب قديم استخدمه الإنسان للإجابة عن سؤال، يستهدف من خلالها توضيح مسألة ما، ويستخدم للمقارنة بين الأحجام، الارتفاع، الطول وغيرها من المسائل الكمية، حيث اكتسب الإنسان الكثير من المعارف عن طريق المقارنة البسيطة.
أما المقارنة كمنهج استخدمت وعلى نطاق واسع في مختلف العلوم الاجتماعية، حيث تطورت المقارنة البسيطة إلى منهج مستقل له ضوابطه ومقوماته وأهدافه، بداية في علم الاجتماع، ثم عمم هذا المنهج في فروع أخرى كثيرة منها المجال القانوني، ولإن توقف تطور المقارنة في العديد من العلوم الاجتماعية عند حد المنهج، فإنه في المجال الحقوقي تطور ليصبح فرعًا مستقلا يطلق عليه تسمية القانون المقارن، وأصبح الناظر إلى المقارنة في الدراسات القانونية ينظر إليها من زاويتين هما: الفرع المستقل، والمنهج. وحتى بالنسبة لهذا الأخير – أي المنهج المقارن – لابد أن نشير إلى أن هناك تفريع أساسي يحكمه، حيث أن المقارنة فيه منقسمة بين أساليب المقارنة والمنهج الكامل، أو ما يسمى بالمقارنة المنهجية أو الموازنة المنهجية. ومن أجل كل هذه النقاط المفاهيمية ارتأينا تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، تناولنا فيهما: ماهية المنهج المقارن، بالتعرض إلى المفاهيم المتداخلة للقانون المقارن، والتي تدور بين العلم المستقل والمنهج، لنقف في المطلب الثاني على تحديد أهم أساليب المنهج المقارن.
ماهية القانون المقارن
كثيرا ما تصادفنا الدراسات المقارنة، في شتى فروع القانون، ونستطيع أن نلمس أنها دراسة مقارنة بمجرد نظرة خاطفة على العنوان، فنقرأ مثلا: “نظام الإفلاس في القانون المقارن”، أو “الجرائم الأسرية دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون”، أو “سلطة رئيس الدولة في الأنظمة الدستورية المقارنة”، “التحكيم التجاري في التشريع المقارن”، وهكذا.
ورغم أن العبارات المستعملة كلها تدل على المقارنة، إلا أنها في الحقيقة مختلفة من حيث بنيانها ومنهجها ونتائجها. وعادة ما يقع الباحث المقارن في مغبة الخطأ الاصطلاحي. ذلك أن عبارات: “القانون المقارن”، “التشريع المقارن”، “الدراسة المقارنة”، عبارات مختلفة في دلالاتها على الرغم من تقاطعها، ولعل هذا الخلط يرجع بشكل أساسي إلى الاختلاف في طبيعة القانون المقارن نفسها، حيث وقع جدل كبير بين الفقهاء حول هذه الطبيعة بين رأي يجد أن القانون المقارن علم، ورأي آخر يرى أنه مجرد منهج.
ولكي نفهم بشكل واضح مفهوم المنهج المقارن، علينا بداية استعراض الإشكالات المتعلقة بطبيعة القانون المقارن.
طبيعة القانون المقارن
القانون المقارن اصطلاح مترجم عن المصطلح الفرنسي “Droit comparé“والإنجليزي “Comparative law“، هذا الاصطلاح الذي أسال الكثير من الحبر، خصوصًا فيما تعلق بمسألة التسمية بداية، ثم الطبيعة، حيث أن تسمية القانون المقارن هي تسمية مضللة، حيث ينصرف إلى الذهن أنه قانون كغيره من القوانين الوضعية، كالقانون المدني أو التجاري، الأمر الذي دفع بالفقهاء إلى البحث عن تسميات أخرى علها تبعدنا عن هذا الغموض الاصطلاحي، فقد ذهب الفقهاء الألمان إلى تسميته “مقارنة القوانين” “Comparaison des lois“، واستعمل فقهاء آخرون عبارة “الطريقة المقارنة” Méthode comparative، بل أن البعض آثر استبعاد كلمة قانون، فيفضل في إنجلترا تسمية “الاجتهاد المقارن” Jurisprudence comparative، واختار الفقيه إدوارد لامبير تسمية “التشريع المقارن” La législation comparée، والتشريع عند هذا الأخير يقصد به النظام القانوني.
غير أن اصطلاح “القانون المقارن” هو الذي هيمن في الأخير على كتابات الفقهاء في التسمية. ولعل هذا الاختلاف في التسمية يرجع بالأساس إلى اختلاف الفقهاء في طبيعة القانون المقارن ووظيفته. ففي حين ذهبت طائفة إلى أن القانون المقارن يعتبر علمًا قائمًا بذاته، ذهبت طائفة ثانية من الفقهاء إلى أنه مجرد طريقة من طرق البحث القانوني. وسوف نحاول من خلال النقاط التالية استعراض هذه الآراء وحجج كل فريق.
أولاً: القانون المقارن علم مستقل
يذهب كل من الفقيهين ريموند سالي Raymond Saleilles وإيدوارد لامبير Edouard Lambert إلى القول بأن القانون المقارن هو العلم الذي يبحث في القواعد المشتركة بين الشرائع والنظم المختلفة، وقد ساد هذا المذهب منذ المؤتمر الأول للقانون المقارن سنة 1911، حيث كانت الأفكار تتطلع إلى وضع قانون عالمي، وبذلك اعتبر القانون المقارن هو العلم الذي يكشف عن هذا القانون العالمي. ويعود أصل في فكرة أن القانون المقارن علم إلى المدرسة التاريخية التي ترى بأن القانون نسبي، وهو متحول بفعل ضغط القوى الاجتماعية، من أجل إرضاء تطلعاته، خصوصًا تلك الاقتصادية. والقانون المقارن وجد كعلم يعنى بتفسير التحولات الحاصلة في الحياة التشريعية، واستخراج القواعد التي تحكم تحولات الحياة الاجتماعية.
وبدأ الاختلاف بين الفقيهين سالي وإدوارد لامبير منذ البداية حول ماهية القانون المقارن. حيث قسمه لامبير إلى التاريخ المقارن؛ وهو العلم الذي يكشف ما بين الظواهر القانونية من صلات وأسباب نشوئها وتطورها، سواء ما تعلق بالمقارنة بين الشرائع الحالية أو القديمة. والقسم الثاني المتعلق بالتشريع المقارن، وله هو الآخر غاية علمية هي البحث في الشرائع المقارنة عن الأسس المشتركة لتكملة القوانين الوطنية وتطويرها. وأطلق لامبير على هذا الشق تسمية القانون العام التشريعي، وهو بهذا المعنى الأخير لا يشكل علما بل مجرد فن.
في حين ذهب سالي إلى أن القانون المقارن علم قائم بذاته، ذلك أن القصد من ورائه هو الوصول إلى استخلاص قواعد قانونية جديدة ومشتركة للإنسانية المتحضرة.
وقد انتقد هذا المذهب الأول من حيث أنه لم يستطع أن يضع تعريفًا موحدًا للقانون المقارن، يقبله جميع المشتغلين في مجال المقارنة حتى بعد مرور نصف قرن من استعمال المصطلح. كما أن الخلاف حول طبيعة القانون المقارن ووظيفته أدى إلى زيادة غموضه.
ثانيًا: القانون المقارن مجرد منهج
ذهب أنصار الاتجاه الثاني إلى أن القانون المقارن مجرد منهج للبحث، فلا هو بالعلم ولا هو بالفرع القانوني، وإنما هو كما يقول الفقيه رونيه دافيد René David ؛ مجرد طريقة للمقارنة في مجال العلوم القانونية. كما يذهب الفقيه قوتريج Gutterige إلى أنه الطريقة المقارنة في تطبيقها على الدراسات القانونية. وقد ساد هذا المذهب بعد الحرب العالمية الثانية.
ويقوم هذا الاتجاه الثاني على أن القانون المقارن كمنهج للبحث، يهدف إلى تحقيق ثلاثة مسائل؛ بداية من أن الدراسة المقارنة تحدد موضوعًا لها ثم تتعمق فيه، وهذا الأمر يتطلب معرفة بالقوانين المقارنة، محلية وأجنبية. ثم إن هذه الدراسة لا تتم إلا بمقارنة قواعد القانون الوطني بما يقابلها في القانون الأجنبي، بل أن الأمر أعمق من ذلك، إذ نجد أن المقارنة تتم مع المنهج العام للقانون الأجنبي في بنيته وهيكله ومصادره، كما أن الطريقة المقارنة تبعد الباحث عن المسائل الفلسفية المجردة، وتقربه أكثر من القوانين النافذة على أرض الواقع.
وعلى الرغم من واقعية الطرح الثاني وعمليته، إلا أنه يحمل تناقضًا في طياته. ذلك أن أصحاب هذا المذهب، وعلى رأسهم الفقيه قوتريج يشترطون أن تكون الدراسة في إطار المنهج الكامل – الذي سنأتي على تفصيله في المبحث الثاني – فتدرس النصوص القانونية وهي في حالة حركية لا في حالة ركود، حيث يجب أن تدرس النصوص على ضوء غايتها الاجتماعية – الاقتصادية. وهذا ما يجعل منتقدي هذا الطرح يتساءلون إذا تم تحديد هذه الغاية للدراسة ألا يجعل هذا الأمر من القانون المقارن علمًا؟
ونجد أنه حتى بالنسبة لهذا المذهب الانتقادي الجديد لم يسلم هو الآخر من النقد بسبب الوقوع في الغموض. حيث أنهم يرون بأن القانون المقارن لا يمكن أن يفهم أو أن يحدد بالغاية التي يهدف إلى تحقيقها، سواء كانت التعرف على القانون الأجنبي، أو حل مشكلة قانونية، أو تحديد الإطار القانوني لاتفاقية دولية، أو توحيد القانون. وعلى ذلك يرى أصحاب هذا الرأي بأن القانون المقارن تتعدد مفاهيمه ووظائفه بتعدد الغايات من ورائه.
الرأي الراجح في طبيعة القانون المقارن
والرأي الراجح اليوم بأن القانون المقارن يأخذ سمة العلم أكثر من سمة المنهج، خصوصًا بعدما تحددت موضوعاته، سواء ما تعلق بتطور الأنظمة القانونية واستخلاص العناصر الأساسية التي تقسم على ضوئها العائلات القانونية الكبرى، حيث تتميز كل واحدة منها بمنهجها وجغرافيتها القانونيةGéographie juridique ، فأصبح بذلك تحديد انتماء قانون ما إلى مجموعة دون أخرى يحتكم إلى علم القانون المقارن، فهذا هو مجال عمل هذا الأخير. وحتى وإن ظهر القانون المقارن كوسيلة للمقارنة بين قاعدتين قانونيتين في قانونين مختلفين، فإن هذه المقارنة سوف تؤدي لا محال إلى تحصيل معلومات جديدة، تجعل من القانون المقارن علما كذلك حتى في هذه الحالة.
وفي تقديرنا المتواضع حول هذا السجال بخصوص طبيعة القانون المقارن، فإنه يجب أن ننتبه إلى أنه حتى وإن أخذا بالرأي الراجح – على رجاحة أدلته – إلا أن اعتبار القانون المقارن علمًا فهذا لا ينفي خاصية المنهج كذلك، حيث أن الموازنة أو المقارنة وإن استعان فيها الباحث بالتحليل أو الوصف أو التأصيل التأريخي، فإنها تظل كمنهج مستقل عن بقية المناهج العقلية الأخرى، حتى أن عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم يصف المنهج المقارن بأنه “منهج التجريب غير المباشر” أو المنهج شبه التجريبي، وهذا يعني أن المنهج المقارن يجمع بين خصائص المناهج العقلية التجريدية، وخاصية المناهج التجريبية، حيث أننا لا نستطيع من الناحية العملية أن نطبق النظريات وبعدها القواعد القانونية على الأفراد، لنرى مدة نجاعتها، ثم نعيد التجربة – كما هو الحال في علوم المادة – حتى نتوصل إلى ضبط القواعد الملائمة للسلوك الإنساني.
ومن ثم فإن الباحث في العلوم الاجتماعية على العموم، والعلوم القانونية على وجه الخصوص، يستطيع الاستفادة من النظريات الاجتماعية والنظم القانونية الناجحة التي طبقت في مجتمعات وبلاد أجنبية، مع مراعاة خصوصية بيئته، وهذا ما يحققه القانون المقارن من تجريب غير مباشر. وهو بذلك يستعمل كمنهج للملاحظة ونقل الخبرات مع ضبط المتغيرات المتدخلة في العملية. وعلى ذلك يذهب البعض المقارنة والموازنة من العلوم الإنسانية بمثابة الملاحظة والتجربة من العلوم الطبيعية.
تعريف المنهج المقارن
بعدما انتهينا من توضيح بعض اللبس والخلاف حول مفاهيم القانون المقارن مع المنهج المقارن، سوف نحاول التطرق إلى تعريف المنهج المقارن.
تعريف المنهج المقارن في علم الاجتماع
للمنهج المقارن تعريفات متعددة، اشتقت في أغلبها من علم الاجتماع، الذي يعتبر بيئة أساسية لتطور هذا المنهج، نذكر منها ما ذهب إليه الفيلسوف “ستيوارت ميل”، من أن المنهج المقارن هو دراسة ظواهر متشابهة أو متناظرة في مجتمعات مختلفة، والمقارنة هي التحليل المنظم للاختلافات في موضوع أو أكثر عبر مجتمعين أو أكثر، وليس ببعيد عن هذا المعنى نجد أن هناك من عرف المنهج المقارن بأنه: “تلك الخطوات التي يتبعها الباحث في مقارنته للظواهر محل البحث والدراسة، بقصد معرفة العناصر التي تتحكم في أوجه التشابه والاختلاف في تلك الظواهر”.
كما عرفت الطريقة المقارنة بأنها: “ملاحظة موضوع ما وتقدير موضعه بالقياس إلى موضوع آخر… بقصد الوصول إلى رأي محدد يتعلق بوضع الظاهرة في المجتمع. والحكم هنا مرتبط باستخلاص عناصر التشابه أو التباين بين عناصر الظاهرة لتحديد أسس التباين وعوامل التشابه”.
تعريف المنهج المقارن في المجال القانوني
وقياسًا على ما سبق فقد جاءت بعض المحاولات في تعريف المنهج المقارن في المجال القانوني على أنه ذلك المنهج الذي يتناول الظواهر والوقائع الاجتماعية والاقتصادية، والقواعد القانونية التي تحكمها، بهدف الكشف عما يوجد بين تلك الظواهر والوقائع من صلات، وعن أسباب نشوئها وتطورها. ونفس الأمر ينطبق على القواعد التي تحكم هذه الظواهر والوقائع.
كما عرف المنهج المقارن كذلك بأنه: “المنهج الذي يعتمده الباحث للقيام بالمقارنة بين قانونه الوطني وقانون أو عدة قوانين أجنبية أو أي نظام قانوني آخر، كالشريعة الإسلامية، وذلك لبيان أوجه الاختلاف والاتفاق بينهما فيما يتعلق بالمسائل القانونية محل البحث، بهدف التوصل إلى أفضل حل لهذه المسألة”.
وتستفيد الدراسات القانونية بشكل مكثف من المقارنة، حيث تساعد في وضع قواعد وملخصات هامة، سواء من خلال مقارنة المؤسسات والوقائع والأنساق والنظم القانونية في مجتمع محدد أو في مجتمعات مختلفة. والقانون المقارن على الرغم الجدل القائم حوله، إلا أن هذه النقاشات حول القانون المقارن ألهمت حتى من يعارضها من رجال القانون، فالمحامون مقارنون بتلقائية عندما يجرون المقارنات بين أحكام المحاكم ويبحثون فيها أن أوجه التشابه والاختلاف، والمقارنة بين الأحكام والنصوص والاجتهادات السابقة. وعلى ذلك يشكل القانون المقارن ما هو امتداد للطبيعة البشرية.
أساليب المنهج المقارن
للدراسة المقارنة مجموعة من الأساليب أو الطرق التي يمكننا أن نتبعها في سبيل إنجاز بحث أو دراسة معينة. ويتمتع كل أسلوب من هذه الأساليب بخصائص تميزه عن غيره من الأساليب. حيث تجعله هذه الخصائص مناسبا في موضوعات معينة وغير مناسب في أخرى.
ويمكننا أن نعدد طرائق المقارنة التي اتبعها الباحثون خلال تكوين القانون المقارن إلى أربعة طرق هي:
- المقابلة
- المقاربة
- المضاهاة
- الموازنة المنهجية
فهي تدور بين الأساليب المقارنة والمنهج الكامل.
وفيما يلي شرحًا موجزًا لكل أسلوب:
1. طريقة المقابلة
ويطلق عليها تسمية المقارنة بالمجانبة Juxtaposition، ومفادها أن يضع الباحث الأحكام التي تعالج موضوعًا واحدًا في قوانين مختلفة جنبًا إلى جنب، فيقابل بعضها بعضًا ليتمكن الباحث من معرفة مواضع التشابه والاختلاف بين هاته النصوص. وهذه الطريقة كانت متبعة في نهاية القرن التاسع عشر وما قبله. فكان الباحث إذا أراد أن يدرس موضوعًا معينًا في عدة قوانين، فإنه يأخذ منها الأحكام التي تتعلق بهذا الموضوع ويضعها إلى جانب بعضها البعض ليتعرف على ما بينها وبين قانونه الوطني من اتفاق واختلاف. فلو أراد أن يدرس موضوع مصادر قانون العقوبات مثلا، ما عليه إلى أن يأخذ المادة الأولى من قانون العقوبات في كل من القانون الجزائري والفرنسي والمصري.
والملاحظ أن هذه الطريقة لا تعتبر دراسة مقارنة بالمعنى الحرفي، فهي عبارة عن تجميع لمواد من قوانين مختلفة. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على معرفة الباحث بتلك القوانين. كما أنها مفيدة من حيث اعتماد الباحث في التدليل على بعض الأفكار الموجودة في القوانين الأجنبية، وأنها مرحلة أولية في أساليب المقارنة الأخرى.
وتنطبق هذه الطريقة مع النوع الأول من أنواع القانون المقارن، وهو القانون المقارن الوصفي، حيث ينصرف معنى هذا الأخير إلى عرض قانونين أو أكثر، وإظهار ما بينهما من تشابه واختلاف، دون أن يكون لهذا البحث التجميعي قصد علمي، كحل مشكلة أو تكوين نظرية ما.
والأمثلة التي يمكن أن نضربها في وقتنا الراهن على هذا النوع من المقارنة كثيرة، لعل أبرزها مختلف التقارير السنوية الصادرة عن منظمات حكومية أو غير حكومية، تستعرض من خلالها وضعية أو مركز قانوني ما في دول العالم كلها أو في بعضها.
ملاحظة
يقسم القانون المقارن إلى ثلاثة أنواع؛ قانون مقارن وصفي، قانون مقارن تطبيقي، وقانون مقارن نظري. والقانون المقارن الوصفي هو ذلك الفرع من القانون المقارن الذي يهدف إلى تجميع معلومات عن القوانين المختلفة، وإذا ما استعملت هذه المعلومات لغاية معينة أو بقصد تحقيق هدف معين ننتقل في هذه الحالة إلى النوع الثاني ألا وهو القانون المقارن التطبيقي. ذلك أننا سوف نستعمل هذه المعلومات من أجل وضع نظرية أو إصلاح قاعدة قانونية ما. أما القانون المقارن المجرد أو النظري، فيقصد به دراسة القوانين المقارنة لمجرد الاستفاضة في المعلومات البحثية.
2. طريقة المقاربة
سميت هذه الطريقة بالمقاربة Rapprochement تعويلا على عنصر القرب أو التشابه الكبير بين القوانين محل المقارنة. ومفادها أن يدرس الباحث وجوه التقارب بين القوانين القابلة للمقارنة، وهي القوانين المتشابهة في البنية وفي الخصائص كالقوانين الرومانية الجرمانية بالنظر إلى أنها مستمدة من مصادر قانونية مشتركة تخضع لمنهج قانوني موحد، يجعلها قابلة للمقارنة فيما بينها، فهذه الطريقة إذن تصلح أثناء المقارنة بين قانونين بينهما أوجه تشابه كثيرة وفروق قليلة، كقوانين الدول التي تنتمي إلى مجموعات قانونية أو عائلة واحدة، كقوانين الدول التي تنتمي إلى العائلة الرومانية الجرمانية أو عائلة الكومون لو، أو عائلة الدول الاشتراكية.
اتبعت هذه الطريقة في توحيد القوانين الداخلية المختلفة وفي الدول الإتحادية كالولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا والمكسيك، والاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وألمانيا الاتحادية سابقًا، حيث يوجد في هذه الدول القوانين الاتحادية إلى جانب قوانين خاصة بكل دولة من الدول التي يتألف منها الاتحاد. كما تتبع هذه الطريقة في بعض الدول المتحدة كإسبانيا حيث يوجد فيها إلى جانب القانون المدني قوانين محلية خاصة ببعض المناطق.
وفي الدراسات الإسلامية نجد ما يشبه ذلك فقد سعى بعض الفقهاء إلى المقارنة بين أحكام المذاهب الإسلامية المختلفة وبيان ما بينها من فروق. وتشكل على إثر ذلك علمًا يسمى بعلم الخلاف لعل أهم ما كتب فيه هو كتاب الفروق للقرافي. وفقه السنة للسيد السابق، والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمان الجزيري. فهذه الكتب وغيرها جمعت بين مختلف المذاهب الفقهية في مدونة واحدة وحاولت بيان الآراء الراجحة والمرجوحة.
3. طريقة المضاهاة
طريقة المضاهاة Confrontation والتي تسمى كذلك بطريقة المعارضة Opposition. وتقوم هذه الطريقة على العكس من الطريقة السابقة على بيان أوجه الاختلاف بين منهجين متمايزين بالبنية الاقتصادية مثلا كالمنهج الروماني الجرماني والمنهج الأنجلو أمريكي من جهة والمنهج الاشتراكي من جهة أخرى. وقد نودي بهذه الطريقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فهذه الطريقة تستعمل عند المقارنة بين قانونين مختلفين من حيث منهجهما وتكون بينهما الكثير من الفروقات. ويبدو أنها لا تصلح عند المقارنة بين عدد كبير من المواد، فهي تستعمل عند المقارنة بين نصوص قليلة تتضمن مواضيع محددة، كالمقارنة التي تجرى مثلا في موضوع الملكية أو العقود بين قوانين دولتين إحداهما اشتراكية والأخرى رأسمالية.
4. طريقة الموازنة المنهجية
طريقة الموازنة المنهجية Comparison méthodique أو كما يصطلح عليها طريقة “المقارنة المنهجية”. وهذه الموازنة هي الطريقة التي تنتهي بالمقارنة إلى نتيجة إيجابية. فالطرق السابقة تقوم على تقرير ما هو كائن فعلا من تشابه أو تباين بين عدة قوانين. أما طريقة الموازنة فإنها تخضع لمنهج يساعد على استخلاص نتائج نتعرف بها إلى القانون المثالي بعد دراسة أسباب التوافق والاختلاف، في ظل العوامل المؤثرة في تكوين كل قانون.
بعد استعراضنا مختلف طرق المقارنة المعتمدة في البحوث القانونية، نشير إلى أن كلا من طريقة المقاربة أو المضاهاة، وكذلك الموازنة المنهجية هي طرق تخرج من دائرة القانون المقارن الوصفي والنظري، لتشكل الطرق الأساسية في القانون المقارن التطبيقي، حيث تصل بالبحث إلى نتائج عملية وعلمية من شأنها أن تؤسس لنظرية أو قاعدة جديدة. ولعل أهم طريقة من طرق المنهج المقارن هي طريقة الموازنة أو المقارنة المنهجية. وعلى ذلك سوف ينصب التركيز عليها في المبحث الثاني من هذه الدراسة.
متطلبات المقارنة المنهجية ومراحلها
خلصنا في المبحث السابق إلى أن المنهج المقارن في الدراسات القانونية، هو منهج عقلي يركز على مسألتي التشابه والاختلاف بين النصوص والأنظمة القانونية، من أجل استخلاص نظرية أو قاعدة أفضل لتحكم مسألة من مسائل التي ينظمها القانون. كما وقفنا على أن المقارنة المنهجية تعبر بحق على مفهوم المنهج المقارن الكامل، على خلاف بقية الطرق التي لا تحقق إلا نتائج جزئية تمهيدية في أغلبها لاستعمال المقارنة المنهجية. وعلى ذلك سوف نحاول التعرف بشكل معمق في ماهية الموازنة المنهجية. بداية من الوقوف على العدة التي ينبغي على الباحث التزود بها قبل خوض غمار هذا المنهج. وانتهاء نصل إلى مختلف المراحل التي يجب أن يمر بها الباحث عند استعمال هذا المنهج.
ولكي يستطيع الباحث القانوني تحقيق الاستفادة القصوى من الدراسات المقارنة، باستعمال المنهج المقارن، يشترط فيه توفر مجموعة من المعارف المسبقة. وهي ما يعبر عنه بمقومات المقارنة المنهجية. ولعل أهم هذه المقومات مسألة الإحاطة العلمية بالقانون الأجنبي، والعوامل المؤثرة في تكوين هذا الأخير. وهذا ما سوف نحاول تفصيله في الفرعين المواليين.
أولاً: علم الباحث المقارن بالقانون الأجنبي
إن أغلب الدراسات المقارنة في الوقت الراهن هي دراسات مقارنة أفقية، حيث يقارن الباحث في العادة بين قانون بلده وقانون دولة أجنبية، ولإن كانت الدراسات العمودية أو الرأسية لا تثير الكثير من الإشكالات العملية على اعتبار أنها دراسات تقع بين قوانين محلية في العادة، فإننا نجد في المقابل بأن الدراسات المقارنة الأفقية تثير مشكلة أساسية تدور حول معرفة القانون الأجنبي، بحيث تختلف منطلقات هذا الأخير وكذا مصادره وفلسفته وغاياته بالانتقال من دولة إلى أخرى. والمقارنة المنهجية لا تحقق غايتها إلا بمعرفة القانون الأجنبي معرفة موضوعية كاملة. وهذه المعرفة تعتبر شرطًا مسبقًا وأساسيًا لعقد المقارنة المنهجية.
ولا تقتصر هذه المعرفة على الجانب النظري للقانون الأجنبي، بل يجب أن تمتد إلى الإطار العملي والإحاطة بتطبيقاته. حيث أن التطبيق والممارسة يشرحان أكثر المقاصد التشريعية لأي قانون. والملاحظ على الكثير من الدراسات القانونية المقارنة أنها تتوقف عند حدود ما جاء في النصوص القانونية، دون الرجوع إلى مسودات القوانين، ومشاريعها، والمذكرات التفسيرية، والتطبيقات العملية، والأحكام القضائية. وهذا الأمر بلا شك فيه تقصير كبير في فهم القانون الأجنبي. فإذا كانت دراسة القانون المحلي تستدعي الرجوع إلى هذه المسائل وغيرها. فمن باب أولى الرجوع إليها في فهم القانون الأجنبي.
ملاحظة
تقسم المقارنة المنهجية إلى مقارنة أفقية Comparison Horizontal، ومقارنة عمودية Comparison vertical أو رأسية. ويطلق على هذا التقسيم كذلك تسمية المقارنة العرضية والطولية. والمقارنات الأفقية (العرضية) هي تلك المقارنات التي تتم بين قوانين متحدة في الزمان مختلفة في المكان. أي أنها المقارنة التي تتم بين قوانين سارية المفعول لكن في بلدان مختلفة. فهي مقارنة بين القوانين المتباعدة في المكان، كالمقارنة بين القانون الجزائري والفرنسي والمصري.
أما المقارنة الرأسية أو العمودية (الطولية) فهي تلك المقارنات التي تتم بين قوانين متحدة في المكان مختلفة في الزمان، كالمقارنات التي تتم بين قوانين قديمة وجديدة داخل الدولة الواحدة، أي أن المقارنة تكون بين قوانين متباعدة في الزمان، كالمقارنة بين قانون قديم وقانون لاحق جديد، أو قانون ملغى وقانون ساري المفعول، وهذه الدراسات المقارنة المحلية، تكون ذات فائدة متى كانت معمقة للدرجة التي تبين فيها الصلة بين القوانين محل المقارنة وربطها بتطور القانون لبيان التغير الحاصل في الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، أو لبيان التشابه والاختلاف بين هذه القوانين لتفسير نشأة المراكز أو المبادئ القانونية، كالمقارنة التي أجراها الفقيهان الإنجليزيان بوكلاند Bukland، وماك نيرMc Nair بين القانون الإنجليزي والقانون الروماني.
هذا وتوجد أيضًا أنواع أخرى من المقارنة كالمقارنة الكيفية والمقارنة الكمية، المقارنة الخارجية والمقارنة الداخلية.
لغة الباحث
يضاف إلى ما سبق، أن الدراسات المقارنة التي تعقد بخصوص قوانين متحدة أو مختلفة مع لغة الباحث، تزداد فيها صعوبة الدراسة المقارنة بالضرورة، إذا ما اختلفت بها اللغة التي كتب بها القانون الأجنبي، وحتى على مستوى المقارنة بين القوانين المتحدة في اللغة، كالمقارنة بين القانون الجزائري، المغربي، التونسي، المصري وغيرها، يجب أن ينتبه الباحث إلى معاني المفردات فيها، فقد تتمايز الدلالات الاصطلاحية عند التنقل من قانون إلى آخر حتى وإن كتبا بلسان واحد. فيجب أن يحاول الباحث توظيف المصطلح الواضح والمتعارف عليه بمدلول واحد. كما يجب تجنب المزيف من المسميات، فنجد مثلا الكثير من الدول تطلق على نفسها ديمقراطية، غير أن الحقيقة غير ذلك.
أما إذا كانت الدراسة المقارنة بين قوانين مختلفة في لسانها، فتزداد صعوبة المقابلة الاصطلاحية. فقد يصادف أن يجد الباحث مصطلحات ليس لها مرادف في قانونه أو العكس. وهناك مصطلحات يصعب ترجمتها من لغتها الأصلية. فمن المصطلحات من ينقل كما هو، ومنها من يحوره الباحث وفقًا لمصطلحات قانونه أو لغته. وهذا الأمر لا يجدي نفعا في الكثير من الأحيان. ونعطي مثلا عن الترجمات الحرفية الخاطئة، عما أقدم عليه أحد الباحثين الإنجليز عند ترجمة كلمة “Bâtiment” الواردة في المادة 423 من القانون المدني الفرنسي بكلمة “Warship”والتي تعني السفينة الحربية، غير أن كلمة “Bâtiment” وإن كان من بين دلالاتها السفينة، فإنها في نص المادة المذكورة أعلاه جاءت بمعنى البناء.
ومن الأمثلة عن الترجمات المتطابقة في الاصطلاح المختلة في المعنى، نجد مثلا ترجمة عبارة “Commun law” التي نقلت إلى الفرنسية “Droit commun” وإلى العربية: القانون المشترك أو القانون العام. فهذه التعابير وإن تطابقت من حيث الترجمة اللغوية إلا أنها مختلفة من حيث المعنى.
تقنيات وأدوات الترجمة
ونشير في هذا المقام إلى أنه على الرغم مما توفره التكنولوجيا من انتشار للغات، وتسهيل مفرداتها وتوحيدها، حيث يمكننا الآن أن نترجم ما نشاء من نصوص وقوانين بلغات مختلفة، عن طريق برامج الترجمة الفورية على غرار ترجمة جوجل، إلا أن هذه التقنيات التكنولوجية لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة مساعدة، حيث أن المصطلح القانوني متفرد في دلالاته. والكلمة الواحدة قد تكون لها عدة معاني، فينبغي على الباحث التحري عن الترجمة والمصطلح الأصح. كما يجب عليه أن ينأى عن الترجمات الحرفية، التي في الكثير من الأحيان تخرج النصوص عن سياقها التشريعي أو التنظيمي.
إضافة إلى ما سبق، يجب أن يتجنب الباحث أخذ النصوص القانونية من المراجع الفقهية، بل يقع عليه عبء الرجوع إلى النص الأصلي، خاصة وأن الأمر اليوم أصبح متيسرًا من خلال المواقع الإلكترونية الرسمية التي تنشر مختلف القوانين كما صدرت في الجريدة الرسمية، وبذلك فإن ما تفره المنتديات ومختلف المواقع غير الرسمية على الشبكة العنكبوتية غير مقبول كمادة أولية للبحث، وذلك خوفًا من مغبة الوقوع في الخطأ عند النقل والترجمة.
بنية القانون الأجنبي
كما يجب على الباحث أن لا يتوقف في بحثه عند حدود دراسة النصوص. وهذا ما سنفصله لاحقًا في مستويات المقارنة. بل يجب أن يعرف بنية القانون الأجنبي محل المقارنة. وهذا من حيث تقسيماته ومصادره وكيفية تطبيقه. ونضرب مثلا عن ذلك: من أن الإدارة تتقاضى على قدم المساواة مع الأفراد دون تمييز لها في أنظمة الكومن لو، على خلاف ما هو موجود في أنظمة القانون المدني التي تجعل لها قضاءً متخصصًا مثلما هو الحال في الجزائر ومصر نقلا عن فرنسا، وهذا الأمر يرجع إلى أن نظام الكومن لو لا يعرف تقسيم القانون إلى عام وخاص. على العكس من الأنظمة القانونية في العائلة الرومانو جرمانية التي تفرق بين القانون العام والخاص.
واختصارًا لما سبق، يرى الفقيه روني دافيد أستاذ القانون المقارن، أن الباحث في القانون الأجنبي يجب أن يضع نفسه في موضع فقهاء القانون الأجنبي حين يبحثون في قانونهم ويراعون في دراستهم ظروفه ومصادره. فالباحث في القانون الإنجليزي مثلا عليه أن يرجع إلى الأحكام القضائية (السوابق القضائية) على اعتبار أنها مصدرًا أساسيًا لهذا القانون. في حين أن القضاء لا يشكل إلا مصدرًا تفسيريًا في فرنسا وغيرها من دول القانون المدني.
ميول الباحث والقانون الوطني
إضافة إلى ما تقدم، يجب على الباحث أن يتخلى عن ميوله في دراسة القوانين الأجنبية. أي لا يخضع القانون الأجنبي لمنهاج قانونه الوطني، وإلا توصل إلى نتائج غير دقيقة في بحثه أو غير جدية. فالعملية هنا أشبه بما يقوم به القاضي عند الفصل في قضايا الإحالة والإسناد والتكييف في القانون الدولي الخاص. حيث أن القاضي في هذه المسائل ولكي يستطيع أن يصل إلى القانون المختص بحكم مسألة من مسائل القانون الدولي الخاص عليه فهم القانون الأجنبي، خصوصًا إذا توصل عن طريق قواعد الإسناد إلى أن القانون الواجب التطبيق هو القانون الأجنبي. ولأن كان القاضي في مسائل القانون الدولي يعذر بجهله للقانون الأجنبي، استثناء من مبدأ أنه لا يعذر الشخص بجهله للقانون، فإن الباحث في الدراسات المقارنة لا يعذر بجهله للقانون الأجنبي محل المقارنة.
ومن ثم يجب أن لا نعول على القانون المحلي في فهم القانون الأجنبي، وإلا فإنه من العسير على رجل القانون الفرنسي أو الجزائري أن يفهم بأن التقسيم الثلاثي للجرائم (جنايات، جنح، مخالفات) لا وجود لنظير له في القانون الإنجليزي. أو أن نظام التبني في فرنسا لا نظير له في التشريع الجزائري. أو أن القضاء الدستوري في الولايات المتحدة لا مقابل له في فرنسا والجزائر.
وينصح الباحثون في القوانين الأجنبية بالرجوع بداية إلى الموسوعات وكتب المقدمات أو المداخل. ثم يتجه الباحث بعد ذلك إلى القوانين ثم الأحكام القضائية. وفيما يتعلق بالأنظمة الغربية فإنه يمكن للباحثين الرجوع إلى المطولاتLes Traités ، وهذا بالنظر لما تحتويه من معلومات ومبادئ عامة نستطيع من خلالها التعرف على البناء القانوني للنظام، فضلا عما تحتويه من دراسات مقارنة بين الأنظمة القانونية المختلفة. كما أن الباحث عليه الرجوع إلى الكتاب الثقات، ويتحرى الرجوع كذلك إلى آخر طبعة لكتبهم لما قد تحتويه من تعديلات لآرائهم.
ثانيًا: إحاطة الباحث بالعوامل المؤثرة في بناء القانون الأجنبي
قد يشترك المنهج المقارن مع المنهج التاريخي في هذه النقطة، أي الإحاطة بالعوامل المؤثرة في تكوين القاعدة القانونية. حيث أن الوصف الكرونولوجي لتطور مركز قانوني ما أو قاعدة قانونية معينة، لا يعتبر توظيفا للمنهج التاريخي، هذا الأخير الذي يركز على مختلف الظروف التي تحيط بنشأة أو تطور هذا المركز أو القاعدة، ومن ثم فالباحث في الدراسات القانونية المقارنة يجب أن يضع في حسبانه أن لكل قانون مجموعة من العوامل المؤثرة في تكوينه، منها ما هو تاريخي واجتماعي، ومنها ما هو سياسي واقتصادي.
ولفهم أدق للنص يجب دراسة البيئة التي نشأ فيها. فما يصلح في مجتمع ما من قواعد لا يصلح بالضرورة في مجتمع لآخر. ذلك أن القانون وليد بيئته، والقاعدة القانونية ما هي إلا تعبير عن الإرادة الجماعية في ذلك المجتمع، ولا أدل على ذلك أن هناك العديد من عمليات المحاكاة لنقل تجارب ناجحة في دول ما، باءت بالفضل الذريع في دول أخرى على غرار نقل تجربة النظام الرئاسي إلى المكسيك، فإن كان هذا النظام السياسي ناجحا وبشكل واضح في الولايات المتحدة إلا انه باء بفشل واضح في المكسيك، والسبب الأساسي لا يرجع إلى نصوص القانون بل إلى تركيبة الدولة، وصلاحيات السلطات، وعادات المجتمع، وطبيعة الاقتصاد. وغيرها من العوامل التي قد تحول دون التطبيق السليم لهذا النظام.
1. معرفة العوامل التاريخية المؤثرة في تكوين القانون الأجنبي
هناك جملة من العوامل التي ينبغي أن يركز عليها الباحث من أجل الفهم الجيد للقانون الأجنبي. نبدأها من العامل التاريخي، ونشير هنا إلى أن أهمية هذا العامل تزيد أكثر في الدراسات المقارنة الرأسية. حيث يركز الباحث بشكل كبير على الأسباب التاريخية المصاحبة لوضع قانون ما، والأسباب التي دفعت إلى التعديل أو الإلغاء.
وعلى مستوى الدراسات المقارنة الأفقية فإن معرفة الأسباب التاريخية المحيطة بوضع نص قانوني أو قانون ما، تمكننا من فهم أسباب الاتفاق والاختلاف بين القوانين، وهناك من النصوص ما لا يمكن فهمه إلا بالرجوع للأحداث التاريخية المصاحبة لصدورها. فإذا أردنا أن نفهم مثلا سبب استقلال الإداري عن القضاء العادي، لابد أن نرجع إلى المصدر التاريخي لهذا القضاء المتخصص، فنرجع إلى فرنسا تحديدًا، فهي مهد القضاء الإداري، ونتعمق في دراسة أسباب الخلاف بين الملك لويس وطبقة النبلاء وما انجر عنه من قيام للثورة الفرنسية، ثم ما أعقبه من سقوط للملكية للدستورية وقيام الجمهورية الفرنسية الأولى، فنجد أن نظرة الإدارة الجديدة في ذلك الوقت تجاه القضاة كانت مليئة بالضغائن، حيث كانوا يرون بأن القضاة موالين للملك والملكية. ومن ثم لم تعرض القضايا ضد الإدارة على القضاة، وعنونت هذه الحقبة بتسمية القضاء المحجوز. وهكذا كانت الخطوات الأولى لامتيازات الإدارة في مواجهة الأفراد. والتي لا نجد لها مقابلا في أنظمة أخرى.
ويترتب على هذا التمهيد المبسط لنشأة القضاء الإداري في فرنسا آثارا على مراكز ومبادئ وقواعد قانونية كثيرة. قد نتطرق إليها بشكل عرضي أو أساسي عند دراستنا لمبدأ دستوري كمبدأ الفصل بين السلطات، أو العلاقات بين السلطات الثلاث في الدولة. أو طغيان العمل التشريعي في تحديد مجالات وصلاحيات الإدارة. فقد يكون للقانونين مصدر واحد. غير أن العوامل التاريخية قد تغير من التفاصيل التي تجعل من القوانين المتشابهة ليست متطابقة بالضرورة.
2. معرفة العوامل الاجتماعية المؤثرة في بناء القانون الأجنبي
بالنسبة لتأثير العوامل الاجتماعية على بناء القاعدة القانونية وتكوينها، فهذا مجال يطور فيه الشرح. بالنظر إلى تمايز المجتمعات في عاداتها وتقاليدها وثقافتها، ومناهلها الفكرية ومعتقداتها الدينية. بل أن الأمر يصل إلى حد التمايز القانوني داخل الدولة الواحدة. ولا أدل على ذلك من قوانين الأحوال الشخصية المختلطة في العديد من الدول التي بها تعدد طائفي أو ديني كمصر ولبنان. بل الأمر يتعدى ذلك في بعض الأحيان إلى التمسك بمذهب دون آخر في الدين الواحد (سنة – شيعة، مالكية – حنفية – حنبلية – شافعية، كاثوليك – بروتستانت – أرثوذكس… إلخ)، فتتمايز بذلك القوانين المنظمة للأسرة سواء ما تعلق بنظام الولاية على النفس والمال، أو الزواج وآثاره وانحلاله، وغيرها من الأحوال.
وما هذه الأمثلة إلا كفيض من غيض، ذلك أن القاعدة القانونية في مدلولها البسيط ما هي إلا تعبير عن السلوك الاجتماعي، والمجتمع في حال تطور مستمر، ولكي يتسم القانون بالشرعية يجب أن يعبر عن رأي الأغلبية في المجتمع. ومن ثم فإن التغيرات الاجتماعية، والخصوصية في كل مجتمع تلعب دورا بارزًا في وضع القاعدة وتفسيرها وتطبيقها.
حتى وإن كانت القوانين تستعمل في بعض الأحيان مصطلحات متشابهة إلا أنها قد تكون ذات دلالات مختلفة عند تطبيقها. وهو ما يجب أن يتحرى عنه الباحث بإسهاب. فالقاعدة القانونية في نشأتها ما هي إلا توصيف وانعكاس لظاهرة اجتماعية. وطبيعة التفاعل نحو تصرف ما استهجانا أو استحسانا هو ما يرقى بالظاهرة الاجتماعية إلى مصاف القواعد القانونية ذات الجزاء.
مثال على تأثير العوامل الاجتماعية
ولو أخذنا مثلاً بسيطًا من واقعنا لوجدنا أن متعاطي المخدرات رغم تشابه تصرفاته في كل المجتمعات. إلا أن التعامل القانوني معه يختلف من قانون إلى آخر تبعا لنظرة المجتمع له. فهناك من يرى بأنه ضحية ومريض يجب إسعافه. وفي نفس الوقت نجد مجتمعات أخرى تعتبره عالة على المجتمع وسبب الآفات فيه. بل أنه السبب في وجود مجرمين أخطر منه كمروجي المخدرات ومنتجيها. ومن ثم يجب أن تسلط عليه أقصى أنواع العقوبات. وتذهب مجتمعات أخرى بحكم الدين فيها إلى تحريم المخدرات قياسًا على تحريم الخمور. وفي المقابل نجد مجتمعات أخرى تبيح التعاطي قياسًا على إباحة شرب الخمر. واعتبار هذا التصرف من قبيل الحرية الشخصية. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وإن استفضنا في الحديث عن التعامل القانوني مع متعاطي المخدرات.
ونجد في هذا المثال أن العوامل الاجتماعية يعتبر تأثيرها هو الأبلغ على تكوين القاعدة القانونية. فعلى الباحث في القوانين الأجنبية دراسة طبائع هذا المجتمع لكي يتسنى له فهم النصوص محل الدراسة.
ومن المهم أن نشير إلى أنه عند دراسة البيئة الاجتماعية التي يطبق فيها القانون. فيجب معاينة هذا القانون وهو في حالة فعالية، كما يجب عليه معرفة مكانة القانون في المجتمع الذي صدر فيه القانون ليحكم علاقاته.
فإذا كان القانون محل المقارنة ينتمي مثلا إلى عائلة القوانين الاشتراكية، فلابد أن يفهم الإيديولوجية التي تقوم على فكرة الملكية الجماعية ومقتضيات التخطيط المركزي ودواعيه، والأساليب الخاصة بتسيير الإدارة فيه، وإذا كانت الشريعة الإسلامية كنظام قانوني محلا للمقارنة. فيجب على الباحث دراسة أصول الشريعة وتقاليد الأسرة والمجتمع الإسلامي. وكذلك دراسة كيفية توزيع المصالح وتقسيمها. ونفس الأمر ينسحب على بقية القوانين والعائلات القانونية.
3. معرفة العوامل الاقتصادية المؤثرة في تكوين القانون الأجنبي
بالنسبة للعامل الاقتصادي فإن أثره يزيد وينقص بقدر تدخل الدولة في تقييد الحرية الاقتصادية. فالرأسمالية والاشتراكية قبل أن يكونا نظامًا للحياة، فهما نظامان اقتصاديان في نشأتهما. ولا ريب أن هذه الأنظمة لها بالغ الأثر على الأنظمة القانونية. فإن كان النهج الاشتراكي مؤسس على تقديس الملكية الجماعية فإننا نكون بصدد التركيز على نظريات الاقتصاد الكلي، حيث تعتبر الدولة مالكة لوسائل الإنتاج فينجر عن ذلك تضييق على حرية التملك، حيث تكاد أن تنعدم هذه الحرية تمامًا. ويعتبر القانون بأكمله في البلدان المعتنقة للنهج الاشتراكي قانونا اقتصاديا بامتياز.
أما البلدان الرأسمالية، وبالنظر إلى أن تدخل الدولة في الاقتصاد يعتبر أمرا استثنائيا، فإن مجال الحريات أوسع، وتدخل الدولة لا يكون إلا بمعزل عن أي امتيازات، وبالتالي فإن نظرة القانون للدولة تكون على أنها شخص معنوي كغيره من الأشخاص المعنوية (الشركات) العاملة في المجال الاقتصادي، غير أن هذه النظرة الاقتصادية الرأسمالية تخبو عند الأزمات والحروب والكوارث، حين يتدخل المشرع بقوانين من شأنها تخفيف آثار هذه الأزمات.
ونستطيع اليوم، وبشكل واضح وجلي أن نلمس أثر العامل الاقتصادي في مجال التأثير على تكوين القواعد القانونية، من خلال التطرق إلى محل وأطراف وسبب، والحماية القانونية – أركان الحق – فهناك الكثير من المراكز القانونية التي ما كان لها وجود لولا تأثير العامل الاقتصادي، نذكر من ذلك المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، فإلى وقت قريب كان المشككون في هذا النوع من المسؤولية، لا يرون أي داع او طريقة لتسليط العقوبات الجزائية على الأشخاص الاعتبارية، ولكن بفعل تدخل الشركات (خصوصًا الوهمية ومتعددة الجنسيات) في الكثير من الأنشطة التجارية غير المشروعة (أنشطة يجرمها القانون)، تم اللجوء إلى تجريم ومعاقبة هذه الكيانات الاقتصادية، باستحداث عقوبات تشبه تلك التي تطبق على الأفراد، سواء بتطبيق عقوبة الحل (الإعدام)، أو التوقيف المؤقت عن ممارسة النشاط (الحبس) أو الغرامة الجزائية.
مثال على تأثير العوامل الاقتصادية
ونعطي مثالاً آخر عن المعاملات الإلكترونية كمحل للحق، هذه المعاملات الجديدة التي تعتبر نتاج التطور التكنولوجي. حيث أن الاقتصاد العالمي يرتكز اليوم على هذا المجال أكثر من المجالين الصناعي والزراعي. فنجد أنه كلما زاد تطور الدولة، زاد مجال الحماية القانونية، وإن كانت الدولة المتطورة قد أصبحت فيها التجارة الإلكترونية، واستخدام البطاقات الذكية، والبرامج المعلوماتية، من الضرورات اليومية، التي لا يمكن للأشخاص العيش بعيدا عنها، فسنت القوانين وكرست الحماية القانونية بمختلف مستوياتها، مدنية وإدارية وجنائية. فإننا نجد بأن الدول الضعيفة المتخلفة، والتي لا تتعامل بهذا القدر العالي من التكنولوجيا، لا تزال حبيسة القواعد التقليدية، التي تحكمها المعاملات الورقية. فلا مجال لحماية مثل هذه المعاملات الإلكترونية، وإن وجدت بعض القواعد، فما هي إلا تقليد في مجال محدود.
فالباحث عند دراسته لأركان أي حق، عليه أن يركز على تأثير العامل الاقتصادي فيها إن وجد. ونفس الأمر ينسحب على دراسة ركني السبب والحماية القانونية. فهناك العديد من النشاطات الربحية التي أسقطت من مجال الحماية القانونية بالنظر إلى سببها غير المشروع. بل أن الأمر يتعدى ذلك إلى تجريم هذا النشاط. ولا يعتبر من قبيل الحرية في ممارسة النشاط التجاري، على غرار تجريم الاتجار غير المشروع بالمخدرات، والأدوية المهلوسة، والأسلحة، والبشر، والأعضاء البشرية، والرقيق الأبيض…، وهذا بالنظر إلى الضرر الذي تحدثه هذه الأنشطة، سواء ما يلحق باقتصاد الدولة وأمنها، أو ما يلحق بالأفراد وصحتهم.
4. معرفة العوامل السياسية المؤثرة في تكوين القانون الأجنبي
كما هو الحال بالنسبة للعوامل السابقة، فإن العامل السياسي قد يكون عاملاً فارقًا في تكوين القاعدة القانونية من حيث مفهومها حتى وإن اتحدت المصطلحات. والدارس للقانون الأجنبي عليه أن ينتبه إلى طبيعة النظام السياسي ونظام الحكم في تلك الدولة، وآليات تشكيل وعمل الأحزاب السياسية فيه، ذلك أن العامل السياسي مرتبط بشكل أساسي بالسلطة الحاكمة، خصوصًا السلطة التشريعية والتنفيذية، فالعلاقة مثلا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تعتبر محددا لطبيعة النظام السياسي (برلماني، رئاسي، مجلسي). واختلاف هذه الطبيعة يؤثر بالضرورة على المفاهيم الاصطلاحية، والاختصاصات الممنوحة لكل سلطة.
ونعطي مثلا عن الاختلاف في الدلالات اللفظية بمبدأ الفصل بين السلطات. حيث إن كان هذا المبدأ مستقرًا في الأنظمة السياسية الكبرى، إلا أن مفهومه يختلف من نظام إلى آخر. ففي النظام الرئاسي يكون الفصل جامدًا، بحيث أن لكل سلطة اختصاصاتها، ولا تتدخل في عمل السلطة الأخرى على الأقل نظريًا. أما الفصل بين السلطات في النظام البرلماني فهو مبني على فكرة الفصل المرن والتعاون بين السلطات. فكما يحق للسلطة التنفيذية حل البرلمان. فبالمقابل يحق لهذا الأخير مساءلة السلطة التنفيذية عن أعمالها.
المصدر
- توظيف المنهج المقارن في الدراسات القانونية. الأستاذ الدكتور عبد الحليم بن مشري، أستاذ التعليم العالي. مدير مخبر أثر الاجتهاد القضائي على حركة التشريع. كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر (بسكرة)، الجزائر.