نحو التطوير الاستراتيجي لمنظومة الاقتصاد
(3) الاستثمارات التسويقية الإنتاجية
لو استطعنا إحصاء كل ما يتم صرفه من أموال لأغراض الدعاية والإعلان وسائر الأساليب الأخرى الهادفة للتسويق لدى الشركات والمؤسسات التجارية والاقتصادية المختلفة في بلد ما لحصلنا على رقم خيالي يفوق ما يمكن أن يتوقعه أفضل خبراء الأعمال والتجارة والاقتصاد في هذا البلد، لدرجة أنه يمكن التكهن، وبدون مبالغة، بأن هذا الرقم قد يتجاوز القيمة الفعلية لمجموع الإنتاجية بكافة أشكالها في تلك الشركات والمؤسسات، وذلك وفقاً لانتشار استخدام نظريات علم التسويق التي تُشجع الصرف على الدعاية والإعلان، بشكل مبالغ به أحياناً، حتى لو كان على حساب تكاليف تطوير المنتج بكافة أشكاله، وأكثر ما يجعلنا نعتقد بصحة هذا التكهن النظرية الشهيرة في عالم التسويق والتي تحث المستثمرين، مجازاً، على إمكان إهدار ما نسبته 99% من ميزانية أي مشروع لصالح عمليات الدعاية والإعلان و1% فقط لأغراض الإنتاج والتطوير لأي مشروع من أجل تحقيق النجاح!!
وفي الوقت الذي ساهمت فيه الكثير من نظريات علم التسويق في إنجاح مشروعات كبرى حول العالم لدرجة وصلت فيها بعض الشركات لنجاح منقطع النظير، بل وتخطت الحدود العليا للنجاح وأصبحت وسيلة لإنجاح الشركات الأخرى بحيث أنها لم تعد بحاجة للتسويق لنفسها وتحولت مع الزمن إلى بيئة للتسويق للشركات الأخرى، إلاّ أنه عندما تم استنساخ هذه النظريات وتطبيقها في المجتمعات العربية كانت، ولأسباب عديدة، وسيلة للفشل أكثر منها للنجاح. وإذا صح لنا الاعتقاد بأن التكامل بين مثلث كل من التطور التكنولوجي – الثقافة السائدة – الوضع الاقتصادي، في مجتمعات الغرب، أدى إلى تحقيق هذا النجاح، فإن التكامل بين أضلاع المثلث المناظر في المجتمعات العربية كان بمثابة المنهج النموذجي الذي يساهم بشكل مباشر، أو غير مباشر، في الفشل ومن ثم الترهل والتراجع الاقتصادي في تلك المجتمعات بشكل عام.
فالتناغم الحادث بين الضعف التكنولوجي والثقافة السائدة والوضع الاقتصادي الضعيف في المجتمعات العربية شكل سداً منيعاً أمام كل محاولات النجاح، وجعل من كل خطط التسويق وسيلة لإهدار الأموال بدلاً من تحقيق الأرباح، بالرغم من كل الجهود التي تُبذل في مجال التطوير التكنولوجي. فالفكر والثقافة السائدة، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمنافسة والاستهلاك، ستظل هي العائق الأكبر الذي يحول دون إيجاد الحلول المناسبة للمعضلة الاقتصادية والتي تتناسب مع، وتناسب، طبيعة وخصائص المجتمعات العربية.
وإذا أمعنا النظر في بعض المعطيات التي تُميز المجتمعات العربية سوف نجد أن أهمها هو معدلات البطالة المرتفعة مقارنة بالدول الكبرى، في ظل تضخم حكومي يفوق الإمكانات، وثقافة الاستهلاك والمنافسة الإقصائية في القطاع الخاص، ويصبح المدخل لإيجاد الحلول المناسبة هو استخدام ما يمكن أن يطلق عليه “الاستثمارات التسويقية الإنتاجية” التي تؤسس لإعادة تجيير الإنفاق في مجال التسويق ليتجه نحو الإنتاج المشترك وتبادل المنفعة بين أنواع متعددة من الشركات بطرق مبتكرة وبالاعتماد على الطاقة البشرية المتوفرة بكثرة وبمختلف التخصصات، بحيث نؤسس لثقافة المشاركة في الإنتاج وخلق فرص العمل لتحل محل المنافسة على الاستهلاك، الأمر الذي سوف يصب في صالح جميع المتشاركين ويساهم في تحقيق النجاح المنشود وزيادة الإنتاج ومن ثم التطوير الاقتصادي بمفهومه الواسع بمرور الوقت.
ومن أمثلة أساليب الاستثمارات التسويقية الإنتاجية ما يمكن أن يُقدم عليه أحد البنوك عندما يتبنى التمويل الكلي أو الجزئي لمشروعات صغيرة لمجموعات من الشباب في مدن مختلفة بحيث يشترط عليهم القيام بالتسويق للبنك بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال منتجاته إذا كان مصنعاً مثلاً، أو من خلال الخدمات التي يقدمها للزبائن بحيث تكون بأسعار مخفضة لعملاء البنك دوناً عن بقية الزبائن، وتُصبح تلك المشاريع وكأنها وسائل دعاية وإعلان للبنك وبميزانيات قد تقل عن تكاليف الإعلانات التلفزيونية مثلاً. أو أن تقوم شركة هاتف محمول بتمويل مشروعات مطاعم ومقاهي أو مراكز تدريب في عدة مدن مع اشتراط تخصيص ركن للتسويق والدعاية لشركة المحمول وتقديم الخدمات المختلفة لزبائنها أثناء تواجدهم فيها، وقد يكون ذلك أقل كلفة من افتتاح الفروع الجديدة ونشر الإعلانات في تلك المدن وربما بقدر أقل من المخاطرة أيضاً، وبطبيعة الحال تتعدد الأمثلة وتتنوع بحسب كل من طبيعة الشركات وأهدافها والأساليب المتنوعة التي يمكن الاستثمار فيها، إضافة لوفرة وتنوع تخصصات الطاقات البشرية التي تبحث عن فرص العمل.
إن الفوائد المنتظرة من استخدام أساليب الاستثمارات التسويقية الإنتاجية تفوق ما يمكن تصوره على المدى البعيد، فإضافة لكونها تخلق فرص عمل جديدة وتمول المشروعات الصغيرة والمتوسطة للشباب العاطلين عن العمل والباحثين عن فرص حقيقية للإنتاج، فإنها تخلق ترابط وثيق بين أعمال التسويق والدعاية والإعلان والمسئولية الاجتماعية للقطاع الخاص في تشجيع العمل الإنتاجي الحقيقي وتؤسس لإيجاد توازن إستراتيجي بعيد المدى بين الإنتاج والاستهلاك، وتوجه آلية التسويق نحو الإنتاج وتعمل على تقليص الإهدار الكبير الذي يتم إنفاقه على خطط التسويق والدعاية والإعلان الاعتيادية، بل والأكثر من ذلك فإنها تجعل من الطاقة البشرية طاقة منتجة في تخصصاتها الفعلية بدلاً من إهمال تخصصاتهم والتوجه للعمل في مجال التسويق الاعتيادي باعتباره الوظيفة الأكثر انتشاراً في البيئات الاستهلاكية غير المنتجة.