نحو التطوير الإستراتيجي لمنظومة الأمن – نظريات الإدارة الأمنية الإستراتيجية
(2) اللاّمركزية المركزية
تطورت نظم الإدارة الحديثة في العقود الأخيرة بشكل لا يُستهان به، وقد كان لهذا التطور الأثر الكبير في رفع مستوى الأداء والفاعلية لتلك النظم وهو ما نتج عنه ارتفاع ملحوظ في كل من حجم وجودة الإنتاجية بشكل عام. وقد أثر أسلوب “ اللامركزية ” بشكل خاص في إحداث هذا التطور ربما أكثر من أي شيء آخر، بحيث أدى لانتشار الوعي الإداري ليمتد إلى جميع المستويات الإدارية الفرعية بكافة تشعباتها على المستويين التخصصي الشبكي والجغرافي العنقودي، هذا بالرغم من أن ذلك حدث بشكل تدريجي بمرور الزمن ومع تراكم الخبرة الإدارية والتعلم من الأخطاء في تلك المستويات.
وفي الوقت الذي لعبت فيه اللامركزية الدور الأكبر في إنجاح أنظمة الإدارة الحديثة في العديد من المجالات، وبخاصة المجالات الإنتاجية كالتجارة والصناعة والزراعة، أو حتى في مجال تقديم الخدمات كالتعليم والصحة وغيرها، إلاّ أنها أثرت بشكل عكسي في كثير من الأحيان على منظومة الإدارة الأمنية تحديداً، بحيث أنها أضحت وسيلة لإضعاف منظومة الأمن أكثر من أن تكون ركيزة أساسية لتطويرها، بخاصة في هذا العصر الحديث، عصر المعلوماتية وما أفرزه من تشابكات وتقاطعات بين المسألة الأمنية من جهة وسائر المجالات الحيوية الأخرى، إضافة للارتباط الوثيق لمسألة الأمن بالخصائص الجغرافية والاجتماعية للمناطق التي تسعى الإدارة الأمنية لبسط الأمن فيها.
فمن جهة، سوف يدفع ارتباط المسألة الأمنية بالمكان جغرافياً واجتماعياً باتجاه اعتماد استخدام أسلوب “ اللامركزية ” بشكل أكثر في منظومة الإدارة الأمنية بهدف تحقيق النجاح وتعزيز قدرة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، ولكن من جهة أخرى، ولأسباب عديدة أوجدها العصر الحديث، عصر المعلوماتية، قد يدفع ارتباط وتشابك المسألة الأمنية بالكثير من العوامل الأخرى باتجاه اعتماد استخدام أسلوب “المركزية” في الشق المعلوماتي لتحقيق النجاح المنشود، وبطبيعة الحال يمكننا أن نتوقع الفشل إذا ما تم اعتماد أي من الخيارين فقط طالما سيتم إهمال مستلزمات الخيار الآخر، ففي الوقت الذي سيعمل فيه أسلوب المركزية على التقليل من سرعة الاستجابة ورد الفعل في أحد المواقع مثلاً، نجد أن أسلوب اللامركزية سوف يؤدي بمرور الوقت إلى الانفصال المعلوماتي ومن ثم اضمحلال القدرة المعلوماتية وربما المعرفية بشكل عام في ذلك الموقع!!
إن الإدارة الأمنية الإستراتيجية بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتطوير أسلوب جديد يتناسب مع متطلبات هذا العصر، بحيث يجمع هذا الأسلوب مزايا كل من اللامركزية التقليدية المتبعة في نظم الإدارة الحديثة على الصعيد الجغرافي والتخصصي إضافة للمزايا التي يوفرها أسلوب المركزية، الصارم أحياناً، بخاصة فيما يتعلق بمسألة المعلومات وتداولها وتحليلها ودراستها بشكل عام، وذلك بشكل تكاملي يتناسب مع خصائص المنطقة “الجغرافية والاجتماعية” التي يتم إدارتها أمنياً، بحيث ينتج ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب “اللامركزية المركزية”، والذي يمكن تلخيصه بأنه عملية جمع بين الأسلوبين معاً بشكل تكاملي ومتوازن وبطريقة تتناسب مع احتياجات كل منطقة وما يميزها من ملامح وخصائص جغرافية واجتماعية لتحقيق الأمن المنشود على الأرض معزز بما يمكن أن توفره المستويات الإدارية الأعلى من غطاء معلوماتي ومعرفي أكثر شمولاً يصل إلى حد القدرة على بناء التوقعات المستقبلية للمخاطر الأمنية المحتملة بهدف منع وقوعها.